تربية سمك السلمون… استثمار مربح

2 يوليو 2021
تربية سمك السلمون… استثمار مربح

في بلدة صغيرة بالقرب من ساحل مقاطعة نوفا سكوشا بكندا، يتمُّ تربية 200 ألف سمكة سلمون أطلسي، بغرض حصادها في العام المقبل. تتمتَّع هذه الأسماك بقوام نحيف ومشدود، ولحم بلون برتقالي مائل للزهري. وقد صادق عليها طاهٍ كندي شهير من ناحيتي الجودة والذوق. وعلى بعد ألفي ميل جنوباً، في إحدى ضواحي مدينة ميامي الأمريكية، يتمُّ أيضاً تربية 2.5 مليون سمكة أخرى، في حظائر المياه المالحة لتحقيق الغرض نفسه، وهو ما يعادل 10 آلاف طن متري.

تختلف شركتا “ساستينبل بلو” (Sustainable Blue) التي يقع مقرّها في نوفا سكوشا بكندا، و”أتلانتك سافاير” الواقعة في فلوريدا بالولايات المتحدة، على نطاق واسع من ناحية الحجم. لكن يجمعهما الطموح المشترك نفسه. فكلاهما على وشك القيام بشيء كان يعدُّ في وقت ما أمراً شبه مستحيل، ألا وهو: جني الأرباح من تربية سمك السلمون الأطلسي الفاخر، الذي لم يسبح بالبحر أبداً.تتسم تربية السلمون على البر بأنَّها باهظة الثمن، ومعقدة للغاية من الناحية الفنية، ومليئة بالتحديات البيئية بشكل خاص. وحتى الآن، كانت تربية السلمون على البر، تُعدُّ قطاعاً متخصصاً بمنتج باهظ الثمن نسبياً. لكنَّ أنصار هذا القطاع يقولون، إنَّه يقدِّم أفضل فرصة على المدى الطويل لتأمين مصدر أساسي للغذاء، وهو إن لم يكن مستداماً بالكامل، إلا أنَّه على الأقل أكثر استدامة بكثير من مزارع الأسماك التقليدية الموجودة في البحار.

زاد استهلاك الفرد من الأسماك بأكثر من الضعف خلال العقود الستة الماضية، ليصل إلى 20.3 كيلوغرام في عام 2017، وكان ذلك مدفوعاً بالتغييرات في التفضيلات الغذائية بالإضافة للنمو السكاني، وفقاً لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة. وأتت هذه الزيادة بالرغم من أنَّ إمدادات كوكب الأرض من الأسماك البرية تتراجع. وقد انتهى الأمر بنحو 87% تقريباً من إجمالي 179 مليون طن متري، من الأسماك التي تنتج من الصيد البري والاستزراع في عام 2018 إلى موائدنا، وهذه الحصة آخذة في الزيادة وفقاً للمنظمة.المزارع السمكية في المحيطاتتسيطر مزارع تربية الأحياء المائية أو المأكولات البحرية على غالبية الأسماك التي نتناولها في الوقت الراهن. وتمثِّل السلمونيات، وهي عائلة تضمُّ أسماك التروتة والشار، ما يقرب من خُمس إنتاج هذه السوق، لكنَّها تأتي بتكلفة بيئية باهظة.ففي حين قد تكون عملية زراعة الرخويات ذات الصدفتين عملية أكثر استدامة، إذ تنظف هذه الرخويات البيئة الموجودة المكان حولها باستخدام خياشيمها، فإنَّ الأمر يختلف بالنسبة للمزارع السمكية الخاصة بالسلمون. فالسيطرة على مئات الآلاف من أسماك السلمون آكلة اللحوم في أقفاص بشباك مفتوحة، ومعلَّقة في المحيط (العملية النموذجية لتربية السلمون) أمر مختلف كلياً.وتتشابه أسوأ المشاكل التي تسبِّبها هذه المزارع مع تلك التي تحدث في أقفاص الخنازير أو الدجاج، ومنها على سبيل المثال: ارتفاع معدلات الوفيات والأمراض، بين الحيوانات والتهديدات التي تمثُّلها لأنواع الحياة المحلية البرية، وتكاثر الطحالب، وانتشار البراز، والكثير جداً من الفضلات.يقول دانيال بولي، أستاذ المصائد بجامعة كولومبيا البريطانية: “توجد تحت القفص مساحة على ارتفاع متر تقريباً، تتكوَّن من مادة برازية وطعام متعفن، وهي من أكثر الأشياء التي يمكن أن تتخيلها إثارة للاشمئزاز.. أحياناً تتحرَّك هذه التراكمات بسبب عاصفة ما، وتقتل كل الأسماك”.أثر بيئي كبيركذلك، ينقل الكثير من السلمون المستزرع في العالم إلى العملاء عن طريق الجو، للحفاظ عليه طازجاً، مما يؤدي إلى انبعاثات ضخمة أثناء النقل. وهو منتج لا يساهم أبداً في حلِّ مشاكل الأمن الغذائي العالمي، وذلك لأنَّ العلف المطلوب لضمان احتواء السلمون على أحماض أوميغا 3 الدهنية التي تساعد على شفاء القلب هو نفسه العلف الذي تتغذى عليه الأسماك الأخرى القريبة له في الفصيلة. ويُصنع ذلك العلف من الأسماك الزيتية الأصغر حجماً، مثل الأنشوفة والسردين، التي يأكلها الناس أيضاً. لحلِّ هذه المعضلة، تدرس المزارع المقامة على البر إمكانيةَ استبدال علف السلمون الحالي بالحشرات.دورة حياة ملحميةوفي حين تغير الحرباء في حياتها ألوانَ جلدها من الأزرق المرقط، أو الفضي والبني، إلى اللون القرمزي والبرتقالي، بنقاط أو خطوط خضراء، يتمتَّع السلمون بدورة حياة أكثر ملحمية إلى حدٍّ ما. فبعد أن تفقس بيوضه في المياه العذبة، تشقُّ الأسماك الوليدة طريقها لتصل إلى المحيط، إذ تصل إلى مرحلة النضوج، ثم ما تلبث أن تقاتل مجدداً لشقٍّ طريق العودة إلى أعلى النهر لتضع بيوضها في مسقط رأسها. تسافر هذه الأسماك لرحلات بطولية تمتد لمئات أو حتى آلاف الكيلومترات. وتتميَّز بقفزاتها على طول الطريق.تحاول المزارع السمكية البرية محاكاة هذه العملية من خلال استخدام خزانات مياه عذبة، وأخرى مالحة، مع محاولتها تقليل التفاعل مع النظام البيئي المحلي بقدر استطاعتها أثناء العملية، وذلك لتجنُّب أنواع العدوى السيئة التي يمكن أن تسبِّبها شباك الصيد المفتوحة.عملية معقدة وبتكلفة مُرتفعةوحتى الآن، أدى تعقيد عملية الاحتفاظ بأعداد كبيرة من السلمون بصحة جيدة في المياه المعاد تدويرها، إلى الحدِّ من قدرة قطاع المزارع البرية على النمو.من جهتها، ابتكرت شركة “ساستينبل بلو” الكندية، تقنية تمَّ تطويرها على مدار 20 عاماً، وتعمل على عدم صرف أي مياه في البيئة، والحفاظ على سمك السلمون في المياه المالحة لفترة أطول، بغرض الحصول على طعم أفضل، كما تقوم الشركة بتحويل النفايات الصلبة إلى وقود حيوي.وبإمكان أي تقدير خاطئ في هذه العملية (مهما بلغ صغر حجمه) أن يؤدي إلى نتائج كارثية، إذ يمكن أن ينتج عن ذلك تراكم مستويات ثاني أكسيد الكربون بشكل أكثر من اللازم، والإفراط في الضغط على نظام الترشيح، وإدخال البكتيريا في الماء، إذ تغيِّر خواص النكهة، أو حتى غياب الطاقة ثم عودتها مجدداً بعد فترة قصيرة.وبالنسبة لشركة “ساستينبل بلو”، ومزارع السلمون الأخرى على البر، يتمثَّل التحدي الأكبر للاستدامة في ضمان أن تكون الطاقة المستخدمة في تنقيح وإعادة تدوير كميات هائلة من المياه متجددة أو نظيفة. ومع بدء مقاطعة نوفا سكوشا بسحب الطاقة الكهرومائية المتجددة من مقاطعة لابرادور المجاورة؛ فإنَّ إدارة الشركة متفائلة بإمكانية تقليل البصمة الكربونية للمنشأة بشكل كبير.يقول كيرك هافركروفت، الرئيس التنفيذي للشركة، إنَّ “ساستينبل بلو” تنتج سمك السلمون الذي لا يشكِّل أي تهديد للأسماك الحرة والنظم البيئية، ولا يتطلَّب هرمونات نمو أو مضادات حيوية، كما أنَّه خالٍ من الفيروسات، وقمل البحر.زيادة الإنتاجتباع شرائح سمك السلمون الخالية من العظام، من شركة “ساستينبل بلو” مقابل 18 إلى 20 دولاراً كندياً (ما يعادل 14.80 إلى 16.50 دولاراً أمريكياً) للرطل، مقارنة بحوالي 13 دولاراً كندياً للرطل لسمك السلمون الأطلسي المستزرع في المحيط. ومن المتوقَّع أن تتقلَّص هذه الفجوة مع زيادة الإنتاج إلى ألف طن خلال العام المقبل، مقارنة بحجم المحاصيل السابقة، التي كانت تتراوح بين 100 إلى 150 طناً، كما يقول هافركروفت.تتوقَّع “ساستينبل بلو” التحوُّل إلى الربحية في عام 2022، وتخطط للتوسع إلى 5 آلاف طن سنوياً، وهي تجري محادثات نشطة لترخيص تقنيتها المحتملة لمنتجين آخرين، كما يقول الرئيس التنفيذي للشركة.هناك أقل من 100 مشروع من مشاريع مزارع السلمون على البر قيد التنفيذ على مستوى العالم في الوقت الحالي، وبعضها يجتذب اهتماماً كبيراً من شركات الملكية الخاصة والبنوك الاستثمارية. ويقول المؤيدون لهذه المشاريع، إنَّ إمكانات النمو هائلة، إذ تتعرَّض مزارع السلمون المقامة في البحر لضغوط متزايدة لتنظيفها أو إغلاقها. وتعمل الحكومة الكندية على التخلُّص التدريجي من مزارع الشباك المفتوحة في ولاية بريتش كولومبيا، على الرغم من تراجع القطاع.ويقول بولي، أستاذ مصائد الأسماك، إنَّ المزارع السمكية على البر تعدُّ خياراً مستداماً ومتخصصاً، خاصة إذا تمَّ استخدام علف الحشرات، لكنَّه مع ذلك يشكِّك بإمكانية انتشارها على نطاق واسع.تقليل الأخطاركذلك، تتمثَّل إحدى الفوائد البيئية الرئيسية لمزارع السلمون المقامة على البر في أنَّها تزيل مزارع الأسماك من المواطن الطبيعية للأحياء الأخرى، مما يقضي على أخطار نقلها لمجموعة من الفيروسات والطفيليات للنظام البيئي. ويُظهر بحث نُشر مؤخراً بواسطة مورديكي غيديون، عالم الفيروسات البيئية في جامعة كولومبيا البريطانية، أنَّ سمك السلمون الأطلسي الذي تتمُّ تربيته في المزارع ذات الشباك المفتوحة يصيب سمك السلمون الحر من نوع شينوك في ولاية بريتش كولومبيا باستمرار بفيروس “أورثوريو”، المرتبط بتلف الكلى والكبد في الأسماك الحرة.ونظراً لأنَّ الفيروس يمكنه البقاء على قيد الحياة لأسابيع في المياه، فهو يمكنه الانتشار مع حركات المد والجزر، وكذلك الانتقال عبر أسماك السلمون المتسرِّبة من الشباك، مما يؤدي إلى إصابة مجموعة كبيرة من أنواع الأسماك في المياه، بما في ذلك “الرنجة” بالمرض، ذلك وفقاً لما يقول مورديكي.أراء مشككةعندما بدأ دونالد ويسلي، الزعيم الوريث لقبيلة “جيتويلجيوتس”، حياته المهنية كصيّاد قبل 45 عاماً، كانت المياه الجليدية حول ميناء سيمبسون في ولاية بريتش كولومبيا تعجُّ بسمك السلمون الحر. ويقول ويسلي:في أيامي، كانت الأنهار الكبيرة التي نملكها أكثر الأنهار رخاء ووُفرة في العالم أجمعه، في حين وصلت الأسماك فيها إلى حد الانقراض الآن.. حتى “الرنجة” اختفت، وهي فصيلة الأسماك التي تحافظ على النظام البيئي بأكمله على قيد الحياةحاولت أحد أكبر شركات إنتاج السلمون في الشباك المفتوحة إنشاء مزرعة سمكية في مكان قريب،قبل نحو 15 سنة. لكنَّ المجتمع طرد المديرين التنفيذيين للشركة بقسوة، كما يقول ويسلي.يشعر ويسلي بالارتياب بشأن المزارع السمكية على البر، ويشك في أنَّ التكتلات الكبيرة ستنفق الأموال في أيِّ وقت، عندما يكون البديل الأرخص بكثير متوفِّراً. وبالنسبة له، فالحل الوحيد هو استعادة كثافة الأسماك البرية؛ حتى يمكن صيدها بطريقة مسؤولة.تقول شركة “أتلانتك سافاير” الأمريكية، إنَّها تمتلك التمويل اللازم لتنفيذ الزراعة المستدامة للسلمون على نطاق واسع في البر. وقد يكون مشروعها في فلوريدا أفضل اختبار لهذا القطاع. ويقول كارل أويستين أويهاوغ، المدير المالي للشركة: “بما أنَّنالا نمتلك بصمة بيئية سلبية؛ يمكننا النمو بحرية بقدر ما نستطيع”. وتمتلك الشركة بالفعل منشآت في الدنمارك والولايات المتحدة، تعتبر الأكبر من نوعها. ومن المتوقَّع أن ينتج موقع فلوريدا الأكبر حجماً نحو 10 آلاف طن من سمك السلمون الأطلسي العام المقبل، مما يدفع الشركة إلى تحقيق أوَّل ربح للعام بأكمله. وتستهدف الشركة أن تصل لإنتاج 220 ألف طن من الأسماك بحلول عام 2031، وهو رقم إنتاج يفوق بكثير إنتاج معظم المزارع ذات الشباك المفتوحة الموجودة.حلول أكثر نظافةكذلك، تستفيد “أتلانتك سافاير” من الطبيعة الجيولوجية للولاية، وتسحب المياه المالحة الخالية من الملوِّثات من طبقة المياه الجوفية القديمة. ويتمُّ تصريف أقل من 1% من مياه المشروع كمياه عادمة غير سامة في منطقة صخرية على عمق 3 آلاف قدم، بالطريقة نفسها التي تتخلَّص بها مدينة ميامي من مياه الصرف الصحي. ويقول أويستين أويهاوغ، إنَّه على مدى آلاف السنين، كان يتمُّ تنقيح المياه من خلال الصخور، لتتدفق في النهاية إلى المحيط وهي نظيفة تماماً. ويضيف قائلاً: “إنَّنا ننتج السلمون في فلوريدا الاستوائية، وهو ينتمي لفصيلة تعيش في المياه الباردة، وليس له أي تأثير مطلقاً على المحيط”.بعد معالجة الأسماك في الموقع وشحنها إلى العملاء عن طريق البر، يمكن تقديمها إلى المستهلك لتناولها في غضون 24 ساعة، وهي تباع بزيادة نسبتها 50% عن أسعار سمك السلمون المستزرع في المحيط، المُباع بنحو 15 دولاراً للرطل. وتعمل شركة “أتلانتك سافاير” على استخدام الطاقة المتجددة بنسبة 100%، بما في ذلك الطاقة الشمسية، وتتطلَّع إلى إزالة الأسماك من أعلافها بحلول عام 2025.يشكِّك بعض النقاد في كل الإجراءات المعقدة التي يتمُّ المرور بها تحت شعار تقديم هذه الأسماك الوردية المستدامة. وتتساءل جينيفر جاكيه، الأستاذة المشاركة في قسم الدراسات البيئية بجامعة نيويورك: “هل يجب علينا ترويض سمك السلمون الآكل للحوم، وتغذيته بنظام غذائي قائم على النباتات لخدمة البشر النهمين؟”.ومن جهته يوضِّح مورديكي أنَّه اكتشف مؤخراً شركةً تنتج سلموناً اصطناعياً مدخناً من الجزر. وأضاف: “لقد تناولته بالفعل عندما كنت بالخارج في أحد المطاعم، وكان جيداً جداً”.