استعجل البعض في اتهام إيران بالوقوف وراء أزمة الكهرباء العراقية. وسبق أن استعجل ويستعجل كثيرون في اتهامها بالتسبب في إفقار، أو زيادة إفقار، دول وشعوب محيطة بها إحاطة السوار بالزند.
الواقع الذي تظهره أيامنا السعيدة، يفيد بصحة المعادلة الحسابية القائلة: إن المأزوم لا يصدّر سوى الأزمات وليس الحلول. والركيك لا يصدّر صلابة، والضعيف لا يصدّر قوة، والمنفلت لا يصدّر انتظاماً، والعاجز لا ينتج إقتداراً… يمكن لتراكم الضخّ التضليلي في الإعلام بداية أن يترك تأثيراً في الوعي البرّاني العام، يناقض واقع الحال، والحقائق والأرقام، لكنه يراكم في المقابل، في الوعي الملموس، حمولة موازية سرعان ما تظهر عند أول ارتطام بين الكذب والحقيقة، بمعنى أنه بحجم التضليل يأتي الصحّ: يبقى الخواء خواءً لا يعبّئ كيساً بالخبز، ولا رفَاً بالحليب، ولا بنزيناً للسيارة، تماماً مثلما أنه لا يجعل الدول الفاشلة ناجحة، ولا الضمور في التنمية عنواناً للرخاء والتقدم، ولا ادعاء القوة بديلاً عن الضعف العاري !
يئن العراقيون من تحكم إيران بإمدادات الطاقة لهم، مثلما تئن شعوب كريمة أخرى من صلافة الدهر وعقم الزمان ومن انقلاب الأحوال إلى منقلب العوز والقحط بعد عزّ ورخاء ورفاه… ومن تمكّن دولة الولي الفقيه من تمديد رؤاها الغيبية إلى مجتمعات لا ينقصها الوعي بالحداثة ولا يمكن وصمها بالانغلاق، وذلك أنين ذو وقع رناّن وصوت صاخب: كيف لسلطة خارجية أن تتسلل بتلك القوة إلى دواخل غيرها وهي على ذلك القدر من الضعف في دواخلها؟ وكيف لاستحضار التاريخ من أبواب ثأرية أو من بواعث ذاتية مضخّمة ومنفوخة أن يبطح بالأرض قيم السيادات الوطنية ومعالم العمران الفكري والمادي المصاحب للزمن وآلياته؟ وكيف للفرع المُلَقَّح منذ خمسة عشر قرناً، أن يطغى بسطوته وحضوره على الأصل الملقِّح؟ وكيف لدول لا ينقصها شيء من عدّة الثراء والبقاء أن تنكسر وتفتقر نتيجة فوران الذات المذهبية المعتبرة في عرف أهلها وأصحابه بأنها “ناجية ” و”منتصرة”؟
للمرة الأولى ربما، لا يمكن اتهام إيران بـ”التآمر”على العراق لإخضاعه أكثر ومن باب قطع إمدادات الطاقة الكهربائية عنه في ذروة الصيف… لأن الذي تبين مباشرة هو أن الصخب من محنة العراقيين كاد يغطي على حقيقة محنة الإيرانيين أنفسهم! ومن فشل دولتهم، بعد أربعة عقود من الثورة في تأمين موجبات وأساسيات العيش الطبيعي، بديهيات العصر، وشروط أحواله وأول الشروط من الكهرباء إلى المياه إلى متانة العملة الوطنية إلى توفر المواد الغذائية الأساسية في كل حين إلى غير ذلك من شؤون تدلّ في جملتها على اقتدار الدولة وهيبة السلطة وصحَة السياسات المتبعة اقتصادياً ومالياً وتنموياً واجتماعياً… وهذا ما لا يمكن أن يدّعي صاحب الشأن في طهران أنه نجح فيه، أو اقترب من النجاح فيه.
كشفت محنة العراق الكهربائية، محنة إيران بالقدر ذاته وأكثر، واضطرت طهران إلى التسليم بحقيقة أنها لا يمكنها الاستمرار في تصدير مقدرات الدولة إلى خارجها لخدمة مشروع اقتدار سياسي مذهبي أكبر منها، ولا يمكنها في هذه الجزئية الكهربائية، أن تواصل ادعاء بطولات خارجية وهي على ذلك القدر من التواضع في داخلها… كان في ودّ اصحاب الشأن فيها أن يظهروا بمظهر المنقذ للعراقيين، لكن واقع الحال لا يُزوّر، وكثرة الضخّ المؤدلج لا تغطي العجز في معامل إنتاج الطاقة، ولا تغطي كوارث السدود المائية التي أنتجت جفافاً غير مسبوق في مساحات كبيرة وشاسعة، مثلما أن الإكثار من تمويل الجماعات الخارجية للدلالة على النفوذ والقوة لا يعطي أجوبة حاسمة ومقنعة على أسئلة الإيرانيين عن أسباب تراجع أحوالهم في كل شأن بدلاً من أن تتقدم.
اضطرت إيران إلى قطع الامدادات عن العراق لأن أهلها في مدن كبرى هم في حاجة إلى تلك الإمدادات… ليت ذلك يسري على كل شأن آخر وليس فقط على الكهرباء !