في الثالث والعشرين من الشهر الجاري، يصبح سارياً التوزيع العام لمخصصات حقوق السحب الخاصة (SDRs) لما يعادل 650 مليار دولار من وحدات حقوق السحب الخاصة (456 مليار وحدة) التي أقرها مجلس المحافظين في صندوق النقد الدولي لدعم السيولة العالمية من أجل مساعدة البلدان الأكثر ضعفاً والتي تعاني في سعيها لتجاوز تأثير أزمة كورونا.
وستحصل البلدان الأعضاء على الوحدات المُصْدَرة حديثاً من حقوق السحب الخاصة بالتناسب مع حصصها الحالية في الصندوق. وتبلغ حصة لبنان في صندوق النقد الدولي 860 مليون دولار أو ما يعادل 633.5 مليون وحدة، بما يشكل 0.13 في المئة من اجمالي حقوق السحب الخاصة.
أين سيصار إلى توظيف هذا المبلغ؟
وفق ما تنص عليه آلية توزيع حقوق السحب الخاصة، تودع وحدات السحب الخاصة في المصارف المركزية لدعم احتياطاتها بالعملات الأجنبية التي تضررت بفعل السياسات التي اتبعتها الدول من أجل تطويق انتشار كورونا ومعالجة تداعياته الاجتماعية والاقتصادية على مجتمعاتها. ويمكن أن تبقى كوحدات خاصة لدى المصارف المركزية فتعزز احتياطاتها من النقد الاجنبي لديه، كما يمكن مبادلتها مع البلدان الاعضاء في الصندوق.
وبالتالي، فإن الحصة المقررة للبنان ستودع في المصرف المركزي. وكبقية البلدان المستفيدة من دعم الصندوق، سيستغرق حصول لبنان على حصته أياماً بعد الثالث والعشرين لإتمام الاجراءات البيروقراطية لدى الصندوق، ومن ثم سيحتاج الى أسابيع لتسييل حقوق السحب هذه وتحويلها إلى حساب الخزينة في مصرف لبنان.
هذا الدعم المهم يأتي في وقت يمر لبنان بواحدة من اسوأ الازمات الاقتصادية والمالية في التاريخ الحديث، كما جاء في توصيف دقيق للبنك الدولي مؤخراً. فالناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد انخفض الى أدنى مستوى له في عشرين عاماً، بينما ارتفع الفقر المدقع أكثر من ثلاثة أضعاف في أقل من عامين.
من هنا، فان الاستفادة القصوى من هذه الأموال عبر تحديد دقيق وشفّاف للأولويات هو أمر جوهري، ولا سيما أن هذا النوع من المساعدات التي سيوفرها صندوق النقد الدولي يتم من دون أي شروط مسبقة للاستخدام أو المراقبة وفق ما تنص عليه آلية توزيع حقوق السحب الخاصة، مما يثير مخاوف بشأن سوء استخدام هذه الأموال وتخصيصها.
لقد نصت ورقة “معايير وآلية تطبيق البطاقة التمويلية” التي أنجزتها منذ أيام اللجنة الوزاريّة المكلفة وضع خطة لتمويل البطاقة التمويليّة تطبيقاً للقانون الصادر عن مجلس النواب، انه سيصار الى تأمين جزء من تمويل البطاقة (556 مليون دولار في السنة) عبر اقتطاع مبلغ 300 مليون دولار من حقوق السحب الخاصة التي سيحصل عليها لبنان من صندوق النقد الدولي.
مع العلم أنه كان يفترض إنجاز هذه البطاقة منذ فترة ليأتي إصدارها متوازياً مع بدء الرفع التدريجي عن معظم المواد المدعومة، لكون مصرف لبنان لم يعد قادراً على الاستمرار في هذه السياسة التي استنزفت معظم احتياطاته بالعملات الاجنبية. لكن ما حصل أن رفع الدعم حصل فيما مصير البطاقة التي يحتاج إلى إطلاقها الى وقت ليس بالقصير، لا يزال مجهولاً.
وهنا كان لافتاً الخبر الذي نشر الثلاثاء ومفاده أن لجنة الأشغال العامة التي التأمت بحضور وزيري الطاقة والمال، ريمون غجر وغازي وزني، طلبت من الرئيسين ميشال عون وحسّان دياب “الإسراع في إنجاز البطاقة التمويلية خلال أسبوع قبل بدء رفع الدعم التدريجي”.
وهو أمر صعب جداً إن لم يكن مستحيلاً. فعملية إصدار البطاقة التمويلية تحتاج الى الكثير من الخطوات غير المتوافرة وغير الجاهزة حتى اليوم بعدما تقرر اعتماد لوائح جديدة، ولا سيما تحضير الاستمارات اللازمة لتحديد عدد الاسر المستفيدة وإعداد احصاءات دقيقة في هذا الشأن، وانشاء قاعدة بيانات وبرامج متخصصة، وإنشاء منصة خاصة بالبطاقة وإطلاق حملات توعية، وغيرها من الاجراءات التي يتطلب انجازها أشهراً طويلة.
مخاطر سوء التخصيص
وعلى افتراض انه جرى تنفيذ كل التدابير التي ستمهد لاصدار البطاقة، فإن تمويلها عبر اقتطاع جزء من حقوق السحب الخاصة يحتاج الى تفاهم وتوافق سياسيين. وهنا منبع القلق.
فالسلطة السياسية فشلت في اتخاذ اجراءات احترازية تمنع هروب رؤوس الاموال عبر إعداد مشروع قانون “كابيتال كونترول” وإعادة هيكلة ديون الدولة والقطاع المالي.
ووضعت بديلاً عن ذلك نظام دعم مكلفاً وغير عادل عزّز استنزاف العملات الاجنبية لدى مصرف لبنان ودفع باتجاه التدهور الكبير في سعر صرف العملة المحلية وفي ارتفاع غير مسبوق للأسعار، وفي تفاقم نقص السلع الأساسية كالأدوية ومادتي البنزين والمازوت، مما أدى الى الانتقال السريع نحو انعدام الأمن الغذائي.
وسط هذه المشهدية القاتمة، تُعتبر البرامج الإنسانية التي تهدف إلى حماية الأسر الفقيرة غير القادرة على توفير أدنى مقومات العيش الكريم، أولويةً في إطار تخصيص المساعدات غير المشروطة. لكنها تمثل في الوقت عينه مصدر قلق اذا لم يتم إنفاقها ضمن آلية شفافة.
بمعنى آخر، صحيح أن استخدام الأموال لتمويل البطاقة كبديل لإلغاء الدعم عن الضروريات الأساسية يمكن أن يعين حوالي نصف مليون أسرة، لكن خطر سوء التخصيص قائم في ظل عدم وجود آلية تنفيذ واضحة، خصوصاً لتحديد الأسر التي يمكن أن تستفيد من هذه المساعدة.
ولا يقتصر القلق على سوء التخصيص. فهناك مخاطر من احتمال استخدام هذه البطاقة كمنصة انتخابية مع اقتراب الاستحقاق النيابي العام المقبل، أي ألا تكون هناك ضمانات كافية تمنع القوى السياسية من التحكم بمسار الانتخابات عبر توزيع هذه المساعدات.
كما أن الخطر الموازي هو في أن يتم تمويل البطاقة بمعزل عن أي خطة اقتصادية متكاملة يمكن أن تتعامل بموضوعية وشفافية مع الازمة برمتها. ويذهب بعض الخبراء الاقتصاديين أبعد في ابداء قلقهم من أن يردع هذا الضخ من الاموال غير المشروطة جهود الإصلاح المنشودة والمرجوة.
وبالاضافة الى ما تقدم، يشكل عدم تحديد العملة التي يجب أن تمنح للأسر المستفيدة من البطاقة، عاملاً سلبياً وخطراً في الوقت عينه.
فماذا لو تم الاحتفاظ بالعملات التي يتم تبادلها من حقوق السحب الخاصة المخصصة وتقديم قيمة البطاقة بالعملة المحلية؟ إن اعتماد هذا الاجراء من شأنه أن يؤدي إلى مخاطر اقتصادية كبيرة، اذ ان تسليم القسيمة التي يمكن للاسرة الاستفادة منها، بالليرة، سوف يضاعف التضخم المرتفع أصلاً ويؤدي الى المزيد من تدهور العملة المحلية.
من هنا، لا يمكن لخطط ضخ 860 مليون دولار من حقوق السحب الخاصة في لبنان أن تتجاهل أو تقلل من شأن خصوصيات سياق الأزمة التي يمر بها أو الأسباب الهيكلية الكامنة وراءها.
وهو ما يطرح تساؤلاً عما اذا كان يجب تخصيص هذه الأموال للمساعدات الإنسانية العاجلة قصيرة الأجل، أم لمشاريع طويلة الأجل من شأنها أن تقلص احتياجات لبنان من النقد الأجنبي وتعالج نقاط الضعف الهيكلية في البلاد.
في هذا الاطار، هناك رأي اقتصادي بوجوب استعمال جزء من هذه الاموال في مشاريع قطاعية كقطاع الكهرباء لانه من شأن بدء اصلاحه أن يقلص استعمالات مادة المازوت وبالتالي “حرق” ما تبقى من احتياطات لدى المصرف المركزي.
كما أن تساؤلاً آخر يجوز طرحه عن الجهة أو الهيئة الرقابية التي ستتأكد من حسن إدارة الأموال أو توزيعها بطريقة حكيمة في ظل غياب المؤسسات الرقابية وما اذا كان يجب الاستعانة بالمنظمات الدولية لضمان عدم سوء إدارتها.
فسياق ما يجري اليوم لا يبشر بأن لدى هذه السلطة النية بالاصلاح، والطعن بقانون الشراء العام الذي يعتبر أهم مطلب اصلاحي دولي، دليل ساطع.