كثير من الوقت أهدره لبنان لكي يبدأ مجدداً باستنهاض إقتصاده.
فلو أنه بدأ منذ العام الماضي بالتفاوض مع صندوق النقد الدولي على برنامج دعم تمويلي لكان تفادى هذا الكم المتلاحق والمتسارع من الأزمات المعيشية.
اليوم، وبعد تشكيل حكومة برئاسة نجيب ميقاتي، سوف يكون هذا الموضوع من ضمن أولويات البيان الوزاري الذي ستأخذ الحكومة ثقة المجلس النيابي على أساسه.
ومن ضمن ما ينص عليه هذا البيان بدء التفاوض مع الدائنين الذين يحملون سنداتنا الدولارية التي استحقت جميعها بعد توقف لبنان عن سدادها في آذار من العام 2020.
قد يسأل كثيرون عن سبب عدم تحرك هؤلاء الدائنين طوال فترة ما بعد تعليق السداد الى اليوم. والسبب بسيط. وهو أن حاملي سندات اليوروبوندز الأجانب يشترطون بدء لبنان التفاوض مع صندوق النقد ليبدأوا تفاوضهم على إعادة هيكلة هذه السندات.
وقد بلغ الدين الخارجي الاجمالي حتى نيسان من العام الحالي 36.76 مليار دولار من أصل 97.77 مليار دولار هو قيمة الدين العام الاجمالي.
وبالتالي، فان الدين العام الخارجي شكّل ما نسبته 37.70 في المئة من الدين العام بحلول نيسان. وتتوزع سندات اليوروبوندز بين المصارف التجارية في لبنان التي كانت تبلغ محفظتها نحو 9 مليارات دولار (كانت تبلغ حوالى 14 مليار دولار قبل أن تبيع منها في الاسواق العالمية) ومصرف لبنان الذي يحمل سندات بـ5.03 مليارات دولار (وفق ارقامه الرسمية)، وما تبقى تحمله صناديق استثمارية اجنبية (كـ أشموند، وفيديليتي، وغيرهما).
طوال هذه الفترة، كانت أسعار سندات اليوروبوندز تواصل منحاها التراجعي بطريقة دراماتيكية مع استمرار الضبابية السياسية والتأخر في برنامج المحادثات مع صندوق النقد الدولي وحملة سندات الدين التي سجلت أسعارها انهياراً كبيراً لتبلغ أدنى مستوياتها في النصف الأول من العام 2021. اذ تراوحت بين 12.25 سنتاً للدولار في نهاية حزيران وسط تأزم سياسي مصحوب بانخفاض احتياطات القطع الأجنبي. لكن عملية تصحيح حصلت الاسبوع الماضي أدت الى رفع اسعار هذه السندات بما بين 0.88 نقطة و1.50 نقطة.
فالسندات التي تراوح استحقاقاتها بين 2020 و2037 كانت اسعارها تراوح بين 13.38 سنتاً للدولار و14.75 سنتاً للدولار مقارنة بـ12.38 سنتاً و13.38 سنتاً على التوالي الأسبوع ما قبل الماضي. وهذا تطور ايجابي هو الاول من نوعه هذا العام.
وهذا يعني أن الاقتطاع او ما يعرف بـ”الهيركات” الحاصل على سندات لبنان السيادية يقدر بنحو 86 في المئة قياساً الى المستوى الحالي لأسعار السندات.
وهو من أعلى مستويات الاقتطاع في الأسواق الناشئة. مع الاشارة هنا الى أن وكالة “ستاندرد أند بورز” كانت أعلنت في تقرير نشرته أخيراً انه في 17 حالة توقف عن الدفع شهدتها الأسواق الناشئة بين أعوام 1999 و2020، بلغ متوسط الاقتطاع على الدين العام ما نسبته 42 في المئة.
اقترح الوزير السابق كميل ابو سليمان منذ فترة أن تفكر الحكومة ومصرف لبنان بالتحضير وإطلاق عرض عام لشراء سندات اليوروبوندز أو قسم منها بسعر لا يتعدى 15 سنتاً، بما يمكّن لبنان من اطفاء جزء كبير من دينه الخارجي وتحقيق وفرٍ طائل.
وهو اقتراح كان جديراً بالمناقشة لأن من شأنه أن يقلص دين لبنان الخارجي الى ما دون الـ15 مليار دولار.
جوانب قانونية وتقنية للتفاوض
هناك العديد من التحديات التي ستواجهها الحكومة بسبب شروط سندات اليوروبوندز نفسها.
فالتصويت على تغيير تاريخ سداد الاستحقاقات أو على إلغاء قيمة السند أو خفضه أو حتى تغيير عملته، يتطلب موافقة 75 في المئة من حملة السندات.
ولكن هل سيملك مصرف لبنان ممثِلاً الحكومة حقّ المشاركة في التصويت؟ فهذه النقطة تعتبر حاسمة لموقف الحكومة التفاوضي.
وهناك نقطة أخرى مهمة تتعلق بطبيعة معاملة الدائنين.
فهل ستكون على قدم المساواة أو ما يعرف بالـ Pari-passu ؟ وهي عبارة لاتينية تعني “على قدم المساواة” أي أنه يتم التعامل مع طرفين أو أكثر في العقد أو المطالبة المالية بالطريقة نفسها.
ويُعتبر هذا التعبير شائعًا في إجراءات الإفلاس وكذلك في مجال الديون مثل السندات التي يحصل فيها كل طرف على المبلغ نفسه.
وفي المقابل، فإن عملية اقناع الدائنين بصدقية الحكومة اللبنانية في سداد استحقاقاتها التي سيعاد هيكلتها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بوضع لبنان خطة اقتصادية ومالية شاملة وموازنة واقعية تقنعان الدائنين على نية الحكومة سداد دينها بصرف النظر عن وعدها باجراء اصلاحات. فما يهم الدائنون هو استرجاع أموالهم العالقة.
ويقدر العديد من الخبراء الاقتصاديين أن تصل نسبة الاقتطاع المطلوبة لاعادة هيكلة دين لبنان الخارجي الى 50 في المئة وقد تكون أعلى لتصل الى 70 في المئة. وهذا يعني أنه كلما ارتفعت هذه النسبة باتت خسائر مصرف لبنان والمصارف أعلى، وهو الامر الذي يفترض رسملة أكثر جوهرية من الحكومة.
كتب الاقتصاي جايمز ريكاردز في مثال له في آب من العام الماضي نشر في موقع “مركز الدفاع عن الديموقراطيات” بعنوان “الازمة في لبنان” بما حرفيته: “يمكن أن تؤدي إعادة هيكلة الديون إلى تمديد آجال استحقاق 6.6 مليارات دولار من السندات المستحقة في 2020 و 2021 و 2022 لمدة 10 سنوات على سبيل المثال.
سيسمح ذلك للبنان بإعادة هيكلة نظامه المصرفي وقوانينه الداخلية بطريقة تسمح بتراكم قدر كبير من النقد الأجنبي (من خلال تحويلات متجددة، وزيادة الصادرات، والاستثمار الأجنبي المباشر، وعملة مخفضة القيمة) ويسمح باستئناف مدفوعات الفائدة وأصل الدين بحلول عام 2023. تعتمد إعادة الهيكلة هذه كلياً على أموال جديدة من قرض يقوده صندوق النقد الدولي مصحوباً ببرنامج تقشف صارم.
في غياب هذا النوع من البرامج، ليس من الواضح كيف يمكن للبنان سد الفجوة بين إعساره الحالي وبعض احتمالات السداد في سنوات عدة”.
ولفت أيضاً الى افتقار العقود مع الدائنين إلى “بند “العمل الجماعي” الذي “يسمح للمُصدر السيادي بالتفاوض بشأن خطة إعادة هيكلة الديون مع الدائنين ومن ثم دعوتهم لإجراء تصويت لكل قضية على حدة للموافقة على الخطة، مع الموافقة التي تتطلب تصويتاً إيجابياً من الدائنين الذين تضيف حيازاتهم مجتمعةً، ما لا يقل عن 75 في المئة من الدين الاجمالي.
وهذا يزيد من احتمالية إبرام صفقة، لأن الدائنين أصحاب المراكز الصغيرة (من 5 في المئة إلى 10 في المئة) لا يمكنهم استخدام تكتيكات الانتظار لمنع إعادة الهيكلة”. وأوضح انه تم استخدام بنود العمل الجماعي على نطاق واسع في إصدار الديون السيادية منذ العام 2015 فقط. اذ انه تم إصدار نحو 16 مليار دولار من سندات اليوروبوندز خلال العام 2015 او ما قبله – مع إصدار 12.3 مليار دولار المتبقية من 2016 إلى 2018 – من دون ان تشمل أياً من سندات اليوروبوندز بنود عمل جماعي.
أحد المخاوف المباشرة التي عبًر عنها ريكاردز هي أن صندوق أشمور” “يملك موقفاً حاجباً بنسبة 25 في المئة في الإصدار المتعثر بتاريخ آذار 2019 (وربما في قضايا أخرى أيضًا، بناءً على إجمالي حيازاتها البالغة مليار دولار). وهذا يعني أن لبنان سيتعين عليه وضع شروط مقبولة لأشمور أو مواجهة التقاضي المطول وإمكانية تجميد الحسابات ومصادرة الأصول في تعاملاته الدولية”.
لا شك في أن عملية التفاوض مع الدائنين ستكون شاقة بالتأكيد، لكنها خطوة أولى على طريق اعادة هيكلة القطاع المالي ككل لتبدأ بعدها عملية استنهاض الاقتصاد على أسس متينة.