كان كلاوس روزنفيلد يقوم بزيارة روتينية إلى مورّد محتمل في ألمانيا في خريف عام 2018، عندما ظهرت أمامه فرصة كبيرة بشكل غير متوقع. مسؤولون تنفيذيون يتركون الشركة في حالة تدهور، إلى حدّ أصبحت معه على وشك أن تباع. ورغم عدم الانتهاء من وضع شروط البيع، كان لا بد لشركة ” “شايفلر” (Schaeffler) التي يعمل بها روزنفيلد، التصرف بسرعة وإنهاء الصفقة.
اتصل روزنفيلد أثناء عودته إلى منزله في فرانكفورت بجورج شايفلر، نجل أحد مؤسسي الشركة، وهو الآن رئيس مجلس الإدارة والمساهم الرئيسي فيها، لإطلاعه على الأمر. وقبل إنهاء المكالمة، كان الرجلان قد اتفقا على اتخاذ القرار في اليوم التالي. وبعد أقل من 12 ساعة، حصل روزنفيلد على الضوء الأخضر لتقديم عرض لشراء “إيلموتيك ستاتومات” (Elmotec Statomat)، المزود الرائد عالمياً للمعدات المستخدمة في تصنيع السيارات الكهربائية.
يقول الرئيس التنفيذي لشركة “شايفلر”: “لم نقم أبداً بإتمام أي صفقة بهذه السرعة، حيث كان واضحاً لدينا أن التكنولوجيا ستسهم في الإسراع في تحوّلنا. إنها خطوة صغيرة ذات تأثير كبير”.تتعارض طريقة الشراء المندفع التي تمت بها الصفقة، مع طبيعة الرأسمالية الألمانية التي تعتبر أكثر حصافة ومنهجية من النسخة الأمريكية. مع ذلك، يسود شعور في غرف مجالس الإدارة، من الغابة السوداء إلى ساحل البلطيق، بضرورة إدراك أن النموذج الاقتصادي الألماني وصل إلى الحد الأقصى للنمو، حيث أًصبحت قطع معدنية بحجم الميكرون يتم تجمعيها في السيارات وغيرها، بينما لم تعد الأنظمة الميكانيكية المعقدة التي يتم شحنها إلى كل أنحاء العالم قادرة على ضمان ثراء سكان البلد البالغ عددهم 83 مليون نسمة.تهديد وجوديتعيش صناعة السيارات الألمانية حالة تراجع منذ فضيحة غش الانبعاثات عام 2015 التي تورطت فيها شركة “فولكس واجن”، في الوقت الذي تواجه تهديداً وجودياً يلوح في الأفق مع انتهاء الاعتماد على محرك الاحتراق الداخلي. ورغم ذلك، يبدو أن أكبر اقتصاد في أوروبا غير جاهز بشكل جيد للانتقال إلى تقنيات رقمية أنظف، حيث تعد انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في البلاد سادس أكبر انبعاثات على مستوى العالم، وتحتل ألمانيا المرتبة 30 في سرعات النطاق العريض للأجهزة المحمولة، مع سرعة تحميل من الإنترنت أقل من نصف السرعة في الصين.حتى مع النجاح الذي حققته شركة “بيونتيك” في تطويرها لأحد لقاحات “كوفيد-19″، إلا أن ذلك لا يخفي حقيقة أن التكنولوجيا الحيوية التي تتخذ من ماينز مقراً لها، كانت بحاجة إلى شركة “فايزر” لتقديم اللقاح إلى العالم. كما شهدت ألمانيا انهياراً مثيراً لشركة المدفوعات الإلكترونية “واير كارد” (Wirecard) العام الماضي، والتي كان يُنظر إليها على أنها بطل ألماني رقمي نادر، قبل أن يتم وصفها بأنها أكبر عملية احتيال في ألمانيا بعد الحرب.وتسود حالة من عدم الارتياح داخل المجتمع الألماني عشية الانتخابات في 26 سبتمبر، والتي ستمثل نهاية فترة أنغيلا ميركل التي استمرت 16 عاماً كمستشارة، ليرث خليفتها، أياً كان هو أو هي، أمة تعتمد على الولايات المتحدة في تحقيق الأمن وسط نمو متصاعد لنفوذ الصين والاتحاد الأوروبي. وبالتالي سيكون ايجاد مكانة لألمانيا عالمياً أثناء قيادة التحول الاقتصادي، مهمة صعبة.براعة التصنيعتعتمد ألمانيا في تحولها الاقتصادي على براعتها التصنيعية والتي تظهر بشكل واضح في مقر “شايفلر” في هيرتسوجيناوراخ، القرية الصغيرة التي تقع شمال بافاريا، والتي زارتها “بلومبرغ بيزنس ويك” هذا الصيف، حيث يمتلئ الهواء داخل مصنع الشركة برائحة زيوت التشحيم، بينما تهدر الآلات التي تقطع الأشرطة المعدنية إلى اسطوانات محددة بدقة، والتي يتم تشكيلها في المحامل.تمثل قطع غيار السيارات التي تعمل على تقليل الاحتكاك، المنتج الرئيسي للشركة بدءاً من الأجزاء المصغرة الموجودة في محولات حركة السيارات التي تباع بأقل من 1 يورو (1.18 دولار) للقطعة، وصولاً إلى توربينات الرياح الضخمة للغاية التي يمكنك قيادة شاحنة صغيرة داخلها، والتي تصل تكلفتها إلى أكثر من 100 ألف يورو للقطعة.كل تمريرة للمعدن عبر المكبس تضيف تفاصيل جديدة في عملية تمت هندستها على مدار عقود لتقليل الحاجة إلى البشر، وهو ما يظهر بوضوح في وجود عدد قليل من الفنيين. وفي منتصف أرضية المصنع، تجد ما يشبه المطبعة القديمة التي يعود تاريخها إلى الخمسينيات، بحجم أكبر قليلاً من البيانو والذي يمثل نصباً تذكارياً لبداية الشركة المتواضعة كصانع عربات يدوية تمثل وسيلة نقل رخيصة ومريحة لنقل الركام والفحم والتبن في ألمانيا المنكوبة التي خرجت من أنقاض الحرب العالمية الثانية.لا تبدي ادارة “شايفلر” عاطفة بشكل مفرط تجاه الماضي، رغم سيطرة أقارب المؤسسين على الشركة. من المقرر هدم مبنى في حرم المصنع كان يضم في السابق مصنعاً للورق، بهدف إفساح المجال لبناء مختبر بقيمة 80 مليون يورو لإجراء الأبحاث والتطوير في مجالات تقليدية، مثل علم المواد، بالإضافة إلى مجالات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي والكيمياء الكهربائية.تتجلى طموحات الشركة في تطويرها خط إنتاج محاور مدمجة بمحركات ومكونات أخرى للسيارات الكهربائية التي تنتجها شركتا “أودي” و”بورش” كما سيضمّ المجمع في هيرتسوجيناوراخ أيضاً مركزاً متخصصاً في الإسراع بتطوير مكونات السيارات التي تعمل بالهيدروجين، والتي يعتبرها الكثيرون الجيل التالي للصناعة.يقول جورج شايفلر البالغ من العمر 56 عاماً، والذي كان يستطيع في طفولته رؤية أضواء المصنع من نافذة غرفة نومه عبر نهر أوراش: “يجب أن تكون متفائلاً بشأن المستقبل حتى تنجح في العمل، وإذا كان والدي وعمي يتمتعان بالثقة لبدء شركة بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، فيمكننا أن ننجح في التحول الحالي”.اخترع والد جورج المحمل الاسطواني، وحصل على براءة اختراع للمحمل الذي يمثل قضباناً صغيرة مثبتة داخل اسطوانة معدنية، والذي تم استخدامه بعد ذلك في محولات ودوارات وناقلات الحركة لسيارات شركة “فولكس واجن” و”مرسيدس بنز” و”بي إم دبليو”.واصلت ” شايفلر” التوسع خارجياً بالتزامن مع بدء شركات صناعة السيارات الألمانية فتح مصانعها في الخارج، حيث يعمل اليوم لدى الشركة أكثر من 80 ألف موظف في 50 دولة، يصنعون نحو 7000 طن من الفولاذ يومياً، أو ما يعادل تقريباً كمية المعدن المستخدمة في بناء برج إيفل.تسهم مبيعات قطع غيار السيارات بنحو ثلاثة أرباع إيرادات الشركة البالغة 12.6 مليار يورو، والتي حققتها الشركة في عام 2020.وعلى الرغم من كونها شركة عالمية لها أسهم مدرجة في “بورصة فرانكفورت”، تبقى “شايفلر” نموذجاً تجارياً ألمانياً، حيث الملكية العائلية، والالتزام بالتقاليد، والتوجه للتصدير، والتركيز على التصنيع بدلاً من نوافذ المتاجر أو الإنترنت.وتواجه الشركة، مثلها كباقي شركات الصناعة الألمانية، تحدياً جديداً في ظل الأهداف المختلفة التي أعلنتها الحكومات من الصين إلى بريطانيا، حيث ستتفوق السيارات التي تعمل بالبطاريات على تلك التي تعمل بمحركات الاحتراق في غضون عقد من الزمن.لن يتم غلق الطريق الألماني ذات السرعة غير المحدودة. فلا تزال سيارة “تسلا” بحاجة إلى محامل. لكن “شايفلر” لا تصنع المحامل فقط، بل تصنع القوابض وناقلات حركة ومكونات أخرى لن يتم استخدامها أو الاعتماد عليها في التحول إلى السيارات الكهربائية. وسيؤدي ذلك التحول إلى إلغاء ما لا يقل عن 215 ألف وظيفة في صناعة السيارات في ألمانيا بحلول عام 2030، أي ما يقرب من ربع القوى العاملة في القطاع وفقاً لتوقعات الرابطة الألمانية لشركات صناعة السيارات. ولمواجهة ذلك التحول تحتاج الشركة إلى استثمار نحو 6.8 مليار يورو من إيراداتها.يتناقش روزنفيلد وجورج بشكل شبه يومي –أحياناً عبر المحيط الأطلسي. غالباً ما يستيقظ جورج في الساعة الثالثة صباحاً للمشاركة في اجتماعات مجلس الإدارة من منزله في تكساس، حيث عاش لعقود بعد أن سعى إلى رسم مساره الخاص خارج التقاليد المريحة الخاصة بالشركة العائلية.وفي إطار سعيهما نحو مستقبل أفضل لشركة “شايفلر”، يقود الرجلان خطة لبيع أو إغلاق بعض الوحدات -قامت الشركة مؤخراً بتفريغ وحدة تصنع العجلة المسننة ومكونات أخرى لمحركات الاحتراق- بينما يسعيان إلى الحصول على تمويل للاستثمار في مجالات جديدة.يقول روزنفيلد: “لا يزال هناك طريق طويل لنقطعه، حيث يتمثل التحدي في تحقيق مكاسب من الأنشطة الأساسية وتنمية الأعمال الجديدة، على أن يتم كلاهما بسرعة مناسبة”.أثمرت بعض جهود روزنفيلد وجورج، حيث تضم المنتجات الجديدة للشركة صفائح معدنية مطلية بمواد متناهية الصغر لإجراء التيار في خلايا الوقود وأنظمة توجيه كهربائية للسيارات ذاتية القيادة بالإضافة إلى مستشعرات التوصيل والتشغيل المدعومة ببرنامج قائم على الحوسبة السحابية، حيث يراقب ويتنبأ بأعطال خطوط التجميع.يقول روزنفيلد: “نريد أن نكون من الفائزين في هذا التحول. لكن ستكون هناك خسائر”.إعادة الهيكلةيقوم العديد من عمالقة صناعة السيارات الألمانية بإعادة هيكلة أنفسهم للبقاء في المنافسة، حيث تسعى شركة “دايملر” إلى فصل وحدة الشاحنات. كذلك تعمل “سيمنز”، المجموعة الصناعية العملاقة على تقسيم أنشطتها إلى كيانات أصغر وأكثر مرونة. كما تقوم “فولكس واجن” بإعادة هيكلة وتحول بقيمة 73 مليار يورو، حيث تركز على البرامج والبطاريات في قلب صناعة السيارات.يعلم جورج شايفلر جيداً أن تحولات الشركات محفوفة بالمخاطر. وقد قدمت الشركة في 2008، التي كانت تعلم وقتها حاجتها إلى التوسع لما هو أبعد من المكونات الميكانيكية، عرضاً لشراء شركة “كونتيننتال” الألمانية لتصنيع قطع غيار السيارات والأكبر من “شايفلر”، والتي كانت قد استحوذت للتو على شركات إلكترونيات من “سيمنز” في توقيت كارثي بهدف تأمين حصة أقلية تسمح لها بإبداء الرأي في إستراتيجية الشركة. ولكن مع اندلاع الأزمة المالية العالمية، تراجع باقي المستثمرين، وقدموا عرضاً أقل وانتهى الأمر بحصول “شايفلر” على 90% من أسهم “كونتيننتال”.وبينما تكافح ميركل لمنع اقتصاد منطقة اليورو من الانهيار تحت وطأة العجز الحكومي المتراكم في اليونان والبرتغال وإسبانيا، كانت “شايفلر” تعاني أزمة ديون خاصة بها نتيجة تداعيات عرض الشراء، ما أدى إلى عودة جورج الذي كان يتابع دراسته لقانون الشركات في الولايات المتحدة، والانخراط مرة أخرى في الشؤون اليومية للشركة العائلية والتي كانت تدار منذ وفاة والده في عام 1996 عن طريق موظفين. وتم تعيين روزنفيلد، المصرفي السابق لتنظيف تلك الفوضى، حيث نجح في إعادة جدولة نحو 11 مليار يورو من الديون بشكل جزئي عن طريق تقليص حصة الشركة في ” كونتيننتال”. وفي عام 2015، أدار جورج طرحاً عاماً لأسهم لا تملك حق التصويت، ونجح في جمع 938 مليون يورو، مع احتفاظه ووالدته ماريا إليزابيث بالسيطرة الكاملة على الشركة.بعد أن أصبحت الشركة على شفا الانهيار تطورت “شايفلر” لتصبح أكثر استعداداً لاتخاذ خيارات صعبة أكثر من أقرانها في الصناعة الألمانية. وقد أعلنت الشركة في سبتمبر الماضي عن خطط لبيع أو إغلاق العديد من المصانع في ألمانيا، وإلغاء 4400 وظيفة في أوروبا بحلول نهاية عام 2022، بما يعادل نحو 8% من قوتها العاملة في المنطقة.اتجاهات واعدةالاتجاهات الحالية للشركة واعدة. حيث حصلت شركة “إي موبيليتي” التابعة لشركة “شايفلر” التي تمثل مظلة لجميع جهود الشركة في مجال السيارات الكهربائية، على 2.1 مليار يورو من الطلبيات في النصف الأول من عام 2021، بما يمثل مستهدف الشركة للعام بالكامل. كما تحسنت هوامش التشغيل بعد تفشي الوباء العام الماضي، ورفعت الشركة مستهدف التدفق النقدي بمقدار الثلث إلى 400 مليون يورو على الأقل.قال جورج أثناء تناول العشاء في هيرتسوجيناوراخ في مقابلة نادرة: “من المهم أن يكون لدينا منهج صحيح”. وأضاف، أن الشركة بحاجة إلى “أن تترسخ فيها ثقافة الثقة والإيجابية، لأن الثقافة تأكل إستراتيجية على الإفطار”.بينما تمضي الشركة قدماً في تطوير عملياتها، يتطلع قادتها إلى برلين بدرجة من الخوف، حيث يسود القلق بشأن أمن الطاقة وتكلفتها مع قيام ألمانيا بالتخلص التدريجي من الاعتماد على الفحم والطاقة النووية، وكذلك مع انخفاض الاستثمار في البنية التحتية الرقمية والمادية، إلى جانب الروتين الذي يعيق مشروعات مثل مصنع شركة “تسلا” الجديد خارج برلين. كما تخشى “شايفلر” كباقي شركات الصناعة الألمانية من أن تعلق وسط التوترات بين الولايات المتحدة والصين.من الصعب أن نتوقع كيف ستكون هناك حكومة لديها الرؤية والتركيز اللازمان للتغلب على مثل هذه التحديات من انتخابات سبتمبر، في ظل انقسام التأييد بين 6 أحزاب ما يجعل من شبه المؤكد وجود حاجة إلى تحالف ثلاثي لتأمين أغلبية في البرلمان، الأمر الذي ينذر بجمود سياسي، وهو آخر شيء تحتاجه الشركات الألمانية، بحسب ما قال روزنفيلد، والذي أضاف: “إنها منافسة عالمية. نحتاج موقفاً أكثر براغماتية حول القدرة على العمل من برلين”.