على مدى سنوات حذَّر علماء المناخ من حرائق الغابات والأعاصير التي باتت تضرب العديد من الدول في الوقت الراهن.واليوم، تدقُّ أجراس خطر مالي يرتبط بالتغيّر المناخي أيضاً، وهو يتربص بالسندات الحكومية التي تمثِّل الجزء الأكبر من السوق العالمية للديون.
أعداد متزايدة من المستثمرين، والأكاديميين، وواضعي السياسات، والجهات التنظيمية تتساءل ما إذا كانت التصنيفات الائتمانية (التصنيفات الأكثر انتشاراً التي تدعم النظام المالي بشكل كبير)، تأخذ بالاعتبار تأثيرات التغيّر المناخي المتطرفة، أو تأثير التغيرات في السياسيات المرتبطة بالاحترار العالمي على مُصدري السندات. وهي مخاطر تهدِّد بنوع من الانهيار المفاجئ والفوضوي للأصول، وقد وصفها الاقتصادي الراحل هايمان مينسكي بالتداعيات التي تطيح بصناديق التقاعد، والميزانيات العمومية للبنوك المركزية والتجارية.
يبدوالكثير من هذه التهديدات على بعد سنوات وعقود من الآن. لكن عندما تنظر للتداعيات المالية، فإنَّك تصطدمبالأخطار التي يصورها الاقتصادي مينسكي، والانهيارات بالأسعار المرتبطة بها. يقول ستيفن فيت المحامي في “مركز القانون البيئي الدولي” في واشنطن الذي يركِّز على المسؤولية المناخية والتمويل: “النطاق الزمني بالنسبة لتغيّر المناخ قد يمتد لعقود أو قرن من الزمان، لكنَّ الخط الزمني للآثار المالية يبدأ الآن”.ماذا عن التصنيف الائتماني؟تؤكِّد وكالات التصنيف الائتماني الثلاث الكبرى “موديز”، و”فيتش”، و”ستاندرد آند بورز” أنَّها تأخذ في الاعتبار العوامل المتعلِّقة بالمناخ عند تقييم مصدري السندات الحكوميين، كما أنَّ كلاً منها تدافع عن منهجيتها وتصفها بالقوية. لكنَّ المستثمرين يتذكَّرون أزمة الائتمان عام 2008، عندما تعرَّضت بعض الديون المصنَّفة عند (AAA) لخسائر كبيرة. كما تسلِّط الدراسات الضوء على المخاطر المتعلِّقة بالديون الحكومية طويلة الأجل التي لا تظهر في التصنيفات التي يتمُّ إصدارها في الوقت الحالي.يشير بحث أجرته “فوتسي راسل” مزود المؤشرات التابعة لمجموعة “بورصة لندن للأوراق المالية” إلى احتمال تخلُّف 10 من 26 عضواً في “مؤشر فوتسي للسندات الحكومية العالمية”، بما في ذلك اليابان، والمكسيك، وجنوب أفريقيا، وإسبانيا عن سداد ديونها السيادية بحلول عام 2050 في حال كان هناك “انتقال غير منظَّم”، وهي تتمثَّل بالمحاولات المتأخرة من الحكومات للحدِّ من انبعاثات الكربون، وما يتسبَّب به ذلك من مفاجآت ضارة بالنسبة للاقتصاد.مخاطر طويلة الأجليقول موريتز كريمر الذي أشرف على تصنيفات الديون السيادية في “ستاندرد آند بورز” حتى عام 2018: “لقد فهمنا جيداً التحديات الهيكلية التي تواجهنا على مدى عقدين أو ثلاثة أو أربعة عقود، وهي لا تنعكس بأي شكل على التصنيف الائتماني. فهناك بعض البلدان تصدر سندات طويلة الأجل مدتها 50 أو 100 عام، وكلها تحمل نفس تصنيف السندات لأجل عامين، وأعتقد أنَّ هذا ليس مناسباً”.في وقت سابق من هذا العام، استخدم كريمر الذي يشغل الآن منصب كبير الاقتصاديين في “كنتري ريسك”، بالاشتراك مع فريق من الأكاديميين، تقنيات الذكاء الاصطناعي لمحاكاة تأثير ارتفاع درجات الحرارة على التصنيفات الائتمانية السيادية في أبحاث “جامعة كامبريدج”. وقد توصَّلوا إلى أنَّ 63 من أصل 108 جهة مصدرة للديون السيادية، بما في ذلك دول مثل: كندا، وألمانيا، والسويد، والولايات المتحدة، ستشهد تخفيض تصنيفها الائتماني بسبب تغيّر المناخ بحلول عام 2030، في حالة فشلها في خفض الانبعاثات، وتحقيق الأهداف العالمية. كذلك أظهر البحث، الذي قادته باتريسيا كلوساك المحاضرة في مجال البنوك والتمويل في “جامعة إيست أنغليا”، أنَّ تخفيضات التصنيفات نتيجة تغيّر المناخ قد تكلِّف خزانة تلك الدول أموالاً تتراوح بين 137 إلى 205 مليار دولار.الديون السياديةيقول ماثيو أغاروالا، خبير الاقتصاد البيئي في “معهد بينيت للسياسة العامة” في “جامعة كامبريدج” وأحد مؤلفي البحث:الديون السيادية هي الدعامة التي يلجأ إليها الجميع في وقت الكوارث والصراعات والاضطرابات، وقد ارتكبت شركات التصنيف أخطاء كارثية بشأن تقدير مخاطر الشركات والمؤسسات المالية قبل الأزمة المالية، والآن يصطفون ليدافعوا عن خطأ كارثي جديد بشأن تغير المناخ، والمخاطر السيادية.يضرب لي كليمنتس، رئيس حلول الاستثمار المستدامة في “فوتسي راسل” مثالاً بدول مثل: أستراليا، وكندا، وروسيا التي تعتمد اقتصاداتها على الوقود الأحفوري، والموارد الطبيعية الأخرى، وهي ستواجه جميعها تحديات حتى في أفضل سيناريو يتمثَّل في انتقال منتظم لتصبح اقتصادات منخفضة الكربون. فمن المرجح أن ينخفض التصنيف الائتماني لأستراليا الذي يحمل حالياً أعلى تصنيف من الشركات الثلاث الكبرى بمقدار درجة واحدة بحلول عام 2030، وبمقدار 4 درجات بحلول عام 2100، ذلك وفقاً لأبحاث “جامعة كامبريدج”.يدير ريكيرت شولتن محفظة الدخل الثابت العالمي في “روبيكو لإدارة الأصول”، حيث لا يستثمر في السندات الأسترالية في ظل استراتيجية الشركة الخاصة بتأثير السندات على المناخ، تمتثل محفظته مع قواعد اتفاقية الأمم المتحدة بشأن تغيّر المناخ المتمثِّلة باتفاقية باريس الدولية لعام 2015، ويقول : بالرغم من تصنيفها عند (AAA)، ستخضع تصنيفات السندات الحكومة الأسترالية لتدقيق أكثر، نظراً لارتفاع مستوى انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وتباطؤ معدل انخفاض الانبعاثات فيها”.مناهج جديدةفي أوروبا، بدأ صنَّاع القرار والجهات التنظيمية بالانخراط في المسألة. فقد أعلن “البنك المركزي الأوروبي” في يوليو الماضي عن تقييم مدى كفاية المعلومات التي تقدِّمها شركات التصنيف حول كيفية تصنيفها لمخاطر الائتمان المتعلِّقة بالمناخ في تصنيفاتها.يرأس إيرين هيمسكيرك “مركز تغيّر المناخ في البنك المركزي الأوروبي”، ويستخدم البنك تصنيفات الشركات الثلاثة الكبرى إلى جانب تصنيفات “دي بي أر إس” (DBRS) التابع لشركة “مورنينغ ستار”، وهو يقول، إنَّه يساعد في تقييم الأصول، كما من الممكن أن يقدِّم البنك متطلَّباته الخاصة بشأن المناخ، إذا رأى أنَّ شركات التصنيف لا تفعل ما يكفي.كذلك تخطط “هيئة الأوراق المالية والأسواق الأوروبية” بصفتها الجهة التنظيمية للأسواق المالية في المنطقة للإبلاغ عن كيفية دمج معايير الاستدامة البيئية والاجتماعية، والحوكمة في التصنيفات الائتمانية، وقد تتخذ “المفوضية الأوروبية” إجراءات بناءً على تلك النتائج.يدفع مستثمرو السندات الحكومية في الأسواق الناشئة، مثل جينس نيستدت مدير صندوق شركة “إيموس لإدارة الأصول” في نيويورك، أموالاً لمقدِّمي بيانات معايير الاستدامة المتخصصة، من أجل الحصول على صورة أفضل للمخاطر المستقبلية.كذلك تستخدم “روبيكو” أداة تصنيف تتضمَّن بيانات متعلِّقة بمعايير الاستدامة، بما في ذلك العوامل المتعلِّقة بالمناخ. وتمتلك مجموعة “لومبارغ أوديير” ما يسمى بـ”أداة مواءمة درجة حرارة المحفظة”، وهي أحد الأدوات الرئيسية التي تستخدمها إلى جانب التصنيفات الائتمانية عند تحديد مدى تعرُّض الأصول لمخاطر المناخ.يقول كريستوفر كامينكر رئيس أبحاث واستراتيجيات الاستثمار المستدام في “لومبارد أودييه”: “ما زلنا بحاجة إلى القيام بعملنا الخاص، وقد أدرك الجميع أنَّ تقييم شركات التصنيف في الأزمات المالية لا يكون صحيحاً دائماً”.تأقلم الوكالاتوسَّعت المؤسسات الثلاث الكبرى أعمالها المتعلِّقة بمعايير الاستدامة البيئية والاجتماعية، والحوكمة المؤسسية بشكل سريع. فقد طوَّرت وكالتا “فيتش”، و”موديز” تصنيفات خاصة بالاستدامة من أجل المساعدة في عكس تأثير مخاطر المناخ على التصنيفات. فيما تقول وكالة “ستاندرد آند بورز”، إنَّ الشركة “ضمنت عوامل الائتمان المتعلِّقة بمعايير الاستدامة، مثل مخاطر التحول المناخي المرتبطة بتكلفة انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وغازات الاحتباس الحراري الأخرى، إذا أخذ محلِّلونا تلك العوامل في الاعتبار لتحليل الجدارة الائتمانية، ولدينا رؤية كافية حول كيفية تطور تأثير تلك العوامل”.يقول ديفيد مكنيل مدير التمويل المستدام في “فيتش”، إنَّ التصنيفات الائتمانية التي تصدرها الشركة تضع في الاعتبار معايير الاستدامة في منتجات التصنيف الأساسية لها، كما أنَّ الاعتبارات المناخية مدمجة بالكامل في عملية البحث الائتماني.استراتيجية “موديز” مشابهة. إذ يقول سوامي فينكاتارامان، النائب الأول لرئيس الشركة للشؤون المتعلِّقة بمعايير الاستدامة، إنَّ درجات التصنيف الخاصة بالمصدر فيما يتعلق بالمخاطر البيئية هي عامل مباشر يتمُّ أخذه في الاعتبار ضمن التصنيفات، وتضيف: “الاعتبارات المناخية كانت دائماً ضمن مدخلاتنا”.يقول فينكاتارامان، إنَّ نصف الجهات السيادية المصدرة التي تغطيها “موديز” يتمُّ تصنيفها اليوم بشكل مختلف عما سيكون عليه الحال في غياب اعتبارات معايير الحوكمة البيئية، والاجتماعية، والمؤسسية. وقالت الشركة في بحث تمَّ نشره في أغسطس، إنَّ حرائق الغابات الأخيرة في اليونان تقدِّم مثالاً لمخاطر الائتمان التي يمثِّلها تغيّر المناخ.المنتقدونيقول منتقدو تلك الممارسات، إنَّ هذه الجهود لا تفي بالغرض. ويقول بيل هارينغتون، نائب الرئيس الأول السابق في “موديز”، إنَّ شركات التصنيف تستخدم الملاحظات، والنتائج المتعلِّقة بمعايير الاستدامة لتجنُّب إجراء تخفيضات محتملة لا تحظى بشعبية.ويضيف “يمثِّل تزايد هذا التصنيف غير الائتماني، إحدى الطرق التي تتفادى من خلالها وكالات التصنيف القيام بعملها. بدلاً من العمل على التصنيف الائتماني”. وعلَّق قائلاً: “نحن نراقب هذه التصرفات”.يشغل هارينغتون الآن منصب زميل أول في “المعهد الكرواتي غير الهادف للربح” في دورهام في نورث كارولاينا، الذي قدَّم ملاحظات فنية إلى الجهات التنظيمية الأمريكية والأوروبية بشأن تلك القضايا، وكذلك إلى شركات التصنيف الثلاثة الكبرى.يقول أغاروالا الخبير الاقتصادي في “جامعة كامبريدج”: “تقدِّم شركات التصنيف الائتماني التصنيف القديم نفسها ببساطة إلى جانب إضافة بعض معايير الاستدامة إلى مؤشراتها “العلمية”، وهي متفاوتة في الأهمية والمصداقية”.ويتابع أغاروالا: “نحتاج إلى أن نبدأ باعتبار التوقُّعات المناخية الاقتصادية في التصنيف السائد حالياً. إنَّه الفرق بين الحصول على التشخيص من الطبيب مسبقاً مقابل الحصول على التشخيص من الطبيب الشرعي عند تشريح الجثة”.كيف تبدو الحلول؟هناك بعض أنواع المخاطر المتعلِّقة بالمناخ التي يسهل اعتبارها في التصنيفات الائتمانية مقارنة بغيرها، وفقاً لما يقوله بيتر كيرنان مسؤول المؤشرات العالمية في “ستاندرد آند بورز”، ويضيف: “من الصعب للغاية أن تكون دقيقاً بشأن الآثار المادية للمناخ على الائتمان”. ويضيف كيرنان، أنَّ مخاطر التحوُّل الاقتصادي أكثر وضوحاً لأنَّها “تتعلَّق بقرارات السياسة العامة التي يتخذها صانعو السياسة، على سبيل المثال فيما يتعلَّق بضرائب الكربون”.اتخذت شركات التصنيف الائتمانية الثلاث الكبرى خطوات لكي يتمَّ أخذ المخاطر المناخية المتزايدة في الاعتبار في بعض القطاعات والمناطق. إذ قامت “فيتش” بتعديل نموذج التصنيف الخاص بها لدولة جامايكا بسبب الاحتمال المتزايد للكوارث الطبيعية في الدولة التي تمثِّل مجموعة جزر كاريبية. وتقول “ستاندرد آند بورز” أيضاً، إنَّها قد خفَّضت تصنيفاتها الائتمانية على ديون دول الكاريبي بسبب تزايد مخاطر الكوارث الطبيعية.يشير روبرتو سيفون أريفالو، كبير مسؤولي التحليل الائتماني للجهات السيادية في “ستاندرد آند بورز”، إلى أنَّ تعرُّض الدولة لمخاطر المناخ وحدها لا يمكن ترجمته دائماً إلى تخفيض التصنيف الائتماني. ويقول، إنَّ اليابان على سبيل المثال تواجه كوارث طبيعية متكررة، ولكنَّها أكثر قدرة على تحمُّلها لأنَّها دولة أكثر ثراءً.تتأثر الاقتصادات النامية بشكل أكثر حدَّة بالمخاطر المالية التي يشكِّلها تغيّر المناخ، ولا سيما الدول الأقل استعداداً لمواجهة الصدمات المتعلِّقة بالمناخ، وفقاً لصندوق النقد الدولي.تضارب مصالحسيؤدي خفض تصنيف البلدان الأقل استعداداً لتغير المناخ إلى زيادة تكلفة جمع التمويل اللازم لدفع عملية انتقالها إلى اقتصادات منخفضة الكربون. ويظهر ذلك جلياً في أسواق السندات الخضراء إذ تجد الشركات والدول ضمن الأسواق الناشئة صعوبة متزايدة في جذب التمويل، وفقاً لتقرير صادر عن “كلية إمبريال كوليدج للأعمال” في لندن.يقول كريمر الرئيس السابق لتصنيفات الديون السيادية في “ستاندرد آند بورز”، إنَّ نماذج الأعمال في شركات التصنيف الائتماني تتسبَّب في تضارب المصالح، كما أنَّ الكيانات التي تغطيها شركات التصنيف تدفع لها، ولذلك هم يحجمون عن تخفيض تصنيف عميل مهم بالنسبة لهم. في المقابل؛ تؤكِّد الشركات أنَّ الاعتبارات التجارية لا تؤثر على تقييماتها.يمكن أن يتمثّل الحل بالنسبة لبعض المستثمرين في توفير تصنيفات ائتمانية تتغير بحسب آجال الاستحقاق المختلفة.يقول جينس من شركة الأسواق الناشئة “إمسو” التي تدير أصولاً قيمتها 7 مليارات دولار: “إذا كان لدي سند مستحق في السنوات الخمس المقبلة، فهل تؤثر اعتبارات تغيّر المناخ على احتمالية السداد؟ على الأغلب لا. لكن إذا كان لدي سندات لأجل 50 عاماً سيكون هناك تأثير”. ويضيف جينس، أنَّ شركات التصنيف “لا تقسِّم التصنيف عادةً بحسب أجل الاستحقاق، وأعتقد في النهاية أنَّ هذه ستكون الثورة التي ستحدث”.