ألقى “كوفيد” بعلم الاقتصاد الكلي التقليدي خارج منطقة الراحة الخاصة به. فخلال الأسبوع الماضي، كشفت التصريحات بشأن السياسة النقدية الصادرة عن مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وبنك إنجلترا، وبنك الاحتياطي الأسترالي، والبنك المركزي الأوروبي عن أحدث المفاجآت التي تمثلت في الانفصال الكبير بين توقُّعات الأسواق بشأن سعر الفائدة وتوجهات البنوك المركزية بشأن مختلف العملات الرئيسية.
لم تأتِ “صدمة تقليص التحفيز التدريجي التقليدية” نتيجة إنهاء أكبر توسّع نقدي منسّق في التاريخ، ولكن بسبب “تناقص” ثقة السوق في الشكل الذي سيبدو عليه في المستقبل.تعاني الأسواق حالياً من مشكلتين جوهريتين؛ الشعور بأنَّ الاقتصادات لا تستطيع العودة إلى ما كانت عليه قبل الوباء، وعدم القدرة على التنبؤ بما ينتظرنا.حالة عدم اليقينوهذا يتفق مع الرسالة التي بعثتها البنوك المركزية الأسبوع الماضي، وهي أنَّ هناك قدراً كبيراً من عدم اليقين بشأن الإنتاج والتوظيف والتضخم في المستقبل.
كما أنَّ هذه الأمور الغامضة ستكون لها تداعيات على المسارات الاقتصادية، وأسعار السوق والعوائد. والنتيجة، كما يقول المثل الصيني، هي رغبة سياسية مشتركة في “عبور النهر من خلال تحسس مواضع الحجارة”.هل خرج التضخم عن سيطرة “الاحتياطي الفيدرالي”؟هناك ما لا يقل عن خمسة مجالات رئيسية من “عدم اليقين المجهول”، والتي حددتها تصريحات رئيس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، ومحافظ بنك إنجلترا، أندرو بيلي، ورئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، ومحافظ بنك الاحتياطي الأسترالي، فيليب لوي، وهي كالتالي:وفي الوقت نفسه، هناك قلق متزايد من أنَّه كلما طال استمرار هذه الاختلالات، زاد خطر التضخم الثانوي في أسعار الأجور، الأمر الذي يستلزم تدخلاً في السياسة على شكل سحب أسرع للمحفزات، ومنحنيات العائد المقلوبة في عام 2022، وتُظهر إشارات الفائدة المستقبلية الأقل وضوحاً من إشارات تقليص المحفزات إلى أنَّ هذه نتيجة يحرص صانعو السياسة على تجنبها.النمو المستقبلي: يثير الإرث الهيكلي للوباء أسئلة حول نمو الاتجاهات المستقبلية، وقدرة الاقتصادات على التوسع المستدام غير التضخمي، و برغم أنَّ تكاليف العمالة الأعلى من المتوقَّع ماتزال تتماشى مع مكاسب الإنتاجية السابقة؛ فإنَّ تقييم الآثار الصافية للتقدم الناجم عن الوباء في نماذج الأعمال الرقمية والبنية التحتية لسلسلة التوريد العالمية سيستغرق سنوات.بعبارة أخرى، ما يزال هناك طريق طويل لنقطعه قبل أن نرى أين يكمن الوضع الطبيعي الجديد للإنتاجية الاقتصادية، وما إذا كانت مكاسب الأجور أثناء الوباء تضخمية بالفعل.أسواق السندات ترسل تحذيرات للبنوك المركزية بشأن النمو قبل رفع الفائدةصدمة أسعار الطاقة: سلَّطت الزيادة في أسعار الطاقة الضوء على التوتر بين التحول الدولي إلى نماذج اقتصادية منخفضة الكربون، ومرونة شبكات الإمداد التقليدية.وتشكل احتمالية الارتفاع الهيكلي المستقبلي في تكاليف الطاقة خطراً على النمو والتضخم في المستقبل من خلال خفض القوة الشرائية الحقيقية للمستهلكين، وتقليص الطلب المستقبلي نتيجة زيادة تكاليف الإنتاج.كما ذكَّرت الزيادة الاقتصاديين والأسواق بحدود قدرة السياسة النقدية على معالجة الاختلالات قصيرة الأجل بين العرض والطلب، لا سيما عندما تنجم عن الاضطرابات الهيكلية العالمية.التضخم مؤقت ولكنه ليس قصير الأجل: لقد بذل رؤساء البنوك المركزية قصارى جهدهم لمعالجة القلق من التضخم في السوق من خلال تحديد ما تعنيه كلمة “مؤقت” في تحليلات قراءات التضخم المرتفعة.ويتوقَّع صانعو السياسة أنَّ الازدحام الواسع النطاق في الموانئ، وتأخيرات الشحن، واختناقات العرض – وكلها قوضت قدرة الاقتصادات على تلبية طلب المستهلكين على السلع – لا يمكن أن تستمر إلى أجل غير مسمى، لكنَّهم يعترفون بأنَّه لا يوجد حل لوجستي سريع لهذه الاضطرابات أيضاً.أزمة سلاسل التوريد تهدد اقتصاد العالم بالهبوطعلاوة على ذلك؛ فإنَّ ضغوط السوق على الشركات لمعالجة مرونة سلسلة التوريد – من جلب القدرة الإنتاجية للموطن، وحتى التخلي عن نماذج المخزون في الوقت المناسب – تعني أنَّ بعض الفوائد التاريخية من العولمة التي أبقت تكاليف المستهلك منخفضة قد تضيع بشكل دائم بعد الوباء.ويخلق هذا قدراً كبيراً من عدم اليقين بشأن التوازن المستقبلي بين النمو والتضخم، وبالتالي؛ بشأن توزيع مكاسب الرفاه بين أصحاب العمل، والعمال، والمستهلكين، والمنتجين، والدائنين، والمقترضين في فترة التعافي بعد كوفيد.وكانت الرسالة الواضحة الأسبوع الماضي هي أنَّ البنوك المركزية غير حريصة على لعب دور الحكم على الإرث الاجتماعي طويل الأجل لكوفيد في هذه المرحلة.معروض العمالة: أكبر متغير منفرد مجهول يقلق البنوك المركزية هو تطور أسواق العمل بعد كوفيد، ويُمثِّل معروض العمالة على المدى الطويل مفتاح تفكير صانعي السياسات حول مستوى القدرة الإنتاجية في الاقتصادات، وحول خطر الفترة المطوَّلة من ارتفاع أسعار المستهلكين، والذي يؤثر في قوة تسعير العمال، وسلوك تحديد الأجور والأسعار لدى الشركات.باول: التوقيت الحالي غير مناسب لرفع الفائدة ونرغب في تعافي سوق العملوعدم اليقين هذا قد وحَّد الاحتياطي الفيدرالي، وبنك إنجلترا، والبنك المركزي الأوروبي، والبنك الاحتياطي الأسترالي في جعل رفع معدلات الفائدة مستقبلاً ليس مشروطاً بقراءات أسعار المستهلك؛ وإنما بالسلوك وبالأجور التي تتحرك لأعلى في الأسواق، حيث الطلب على العمال والمهارات يفوق العرض باستمرار، كما سيؤدي ذلك إلى تضخم واستمرار أكثر في المستقبل.أين يتركنا هذا الأمر؟ في الوقت الحالي، سيساعد هذا على استعداد البنوك المركزية لضخ سيولة وفيرة في عزل الأسواق عن الحسابات غير السارة لمحاولة التنبؤ بما لا يمكن التنبؤ به.ومن خلال الإبقاء على أسعار الفائدة دون معدل التضخم، ولكن تحريكها إلى الأعلى أيضاً- أي من خلال الحفاظ على الفائدة السلبية الحقيقية في ظل التوسع المستمر المدفوع بفائض الطلب – تأمل البنوك المركزية في الإبحار عبر عدم اليقين المتعلق بمعروض العمالة بجانب الحد من قلق السوق بشأن التضخم، والحفاظ على استدامة الديون المتزايدة جراء الوباء.ومع ذلك؛ فإنَّ أياً من هذه القضايا ليست بيد السياسة النقدية لحلها، أو التنبؤ بها، وهذا ما يجعل الهدوء بين الأسواق أكثر روعة، ونأمل ألا تتلاشى السيولة الوفيرة من قبل البنوك المركزية في وقت أبكر من اللازم.