بعدما دفعت روسيا بدباباتها وقواتها العسكرية إلى أوكرانيا؛ تراجعت الأسواق لمدة نصف يوم. هبطت العقود الآجلة لمؤشر “ستاندرد آند بورز 500” خلال الليل؛ بيد أنَّه وبحلول الساعة 2:30 بعد الظهر بتوقيت نيويورك يوم 24 فبراير؛ كان مؤشر “ستاندر آند بورز 500” قد بلغ مستوى أعلى مما كان عليه قبيل انطلاق التحرك العسكري. وبرغم وجود تقلبات؛ إلا أنَّ أسواق الأسهم الأمريكية حتى الثالث من شهر مارس كانت ما تزال أعلى مما هي عليه قبل عملية الغزو.
اتصل بي الكثير من عملاء شركتي المتخصصة في إدارة الثروات الخاصة، وكتبوا مستفسرين كيف أمكن حدوث هذا الأمر. الإجابة باختصار؛ هي أنَّه لا شيء يدل على غرابة الموضوع. من الناحية التاريخية؛ فالأحداث على غرار الحروب والاغتيالات والهجمات الإرهابية؛ ليست ذات تأثير ملموس على العوامل التي تحرك الأسواق.تتسبّب هذه الحوداث المروعة في خسائر بشرية فادحة، يجري قياسها بعدد الوفيات، والإصابات، والمعاناة الإنسانية، واللاجئين؛ بيد أنَّ رد الفعل الفوري على الصراعات الجماعية الخطرة على غرار الحرب في أوكرانيا؛ يميل إلى عدم التأثير في تقييمات الأسهم في الأجل البعيد.
إنَّ العامل الذي يقود حركة أسعار الأسهم، يتمثل في الزيادة بأرباح وإيرادات الشركات، أما الحدث الجيوسياسي النمطي؛ فلا يعد ضخماً بما يكفي لتغييرها بطريقة كبيرة. يعتبر التأثير على الناتج المحلي الإجمالي العالمي طفيفاً في جميع الحالات، باستثناء حالات محدودة.ماذا يقول التاريخ؟نظر رايان ديتريك، كبير خبراء السوق الاستراتيجيين في شركة “إل بي إل فاينانشال” (LPL Financial)، في 22 أزمة غير مالية كبرى، منذ هجوم “بيرل هاربور”، وما جاء بعده. ومع أنَّه لم يكن هناك أي تشابه بين تلك الأحداث؛ وجدت سوق الأسهم طريقها الخاصة للتخلص من تبعاتها سريعاً، على حد قوله. أسفرت هذه الوقائع عن متوسط خسائر ليوم واحد بحوالي 1.1%.بلغ متوسط التراجع الإجمالي جراء الأحداث الجيوسياسية، وبلوغه القاع، ثم العودة مرة ثانية إلى الارتفاع، نسبة 4.8%. في المعتاد يستغرق الأمر 19.7 يوم للوصول إلى أدنى مستوى، و43.2 يوم لاستعادة التوازن. حتى مع دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية عقب معركة “بيرل هاربور”؛ احتاجت السوق سنة ونصف السنة فقط للتعافي من التداعيات. كانت أسوأ حرب يشهدها تاريخ البشرية، واستغرقت سوق الأسهم الأمريكية 143 يوماً لتصل إلى أدنى مستوى لتعود إلى الارتفاع بعد مرور 307 أيام.
الولايات المتحدة.. استثناء
هناك بعض التحفظات في هذا السياق. تعتبر الولايات المتحدة قوة عظمى معزولة جغرافياً، كما أنَّ المخاطر الوجودية التي تهدد عملتها وسوقها المالية –باستثناء وقوع كارثة نووية– محدودة تماماً. أما النتائج في البلدان الأصغر والأكثر ضعفاً؛ فتتباين بشكل كبير، وذلك من خلال إلقاء نظرة على بولندا في سنة 1939، أو أفغانستان في سنة 2001، أو روسيا في سنة 1906؛ إذ نجد أنَّ أسواق الأسهم أو السندات أو العملات تتأثر بطريقة هائلة. كذلك؛ رأينا الأمر يتكرر، ولكن في بداية النزاع الحالي فقط. الناتج المحلي الإجمالي لروسيا، الذي يبلغ 1.67 تريليون دولار محدود نسبياً؛ إذ يعادل تقريباً الناتج المحلي الإجمالي لكندا، التي تضم في المقابل ربع تعداد السكان. يعتبر اقتصاد أوكرانيا أصغر. بيد أنَّه مع تصعيد حالة الحرب؛ من الممكن أن يكون لها تأثير اقتصادي يتخطى حدود تلك الدول.بين الأخبار والواقعبرغم ذلك؛ فإنَّ قدرة الأسواق على الصمود تظهر بشكل واضح. لا يعد المغزى أنَّه يفترض أن تشعر بالرضا عن الحوادث الخطيرة، أو تفترض أنَّه لا يوجد شيء من الممكن أن يضر بمحفظة أصولك، بيد أنَّه من المفترض أن تكون على حذر حيال الفصل بين الأخبار والتحولات في السوق. برغم أنَّ “وول ستريت” لا تعاني من عجز في وجود المعلّقين المحترفين المتخصصين في القضايا الجيوسياسية؛ إلا أنَّه من الصعب إجراء تداول بطريقة ناجحة تبعاً لتوقُّعاتهم. في الأغلب تهبط الأسواق في عناوين الأخبار، بيد أنَّها تميل سريعاً عقب وقوع هذه الهزات للعودة إلى الاتجاهات السابقة، بصرف النظر عما كانت عليه.