تتدرج معركة المصارف ضد الدولة في إطار رفضها خطة التعافي المالي والاقتصادي التي تحمّلها الجزء الأكبر من الخسائر المالية المسجلة.
فبعد أن أرسلت كتاباً الى رئيس بعثة صندوق النقد الدولي الى لبنان أرنستو راميريز في نيسان الماضي، تبلغه فيها أن الخطة (التي كانت في حينه لا تزال في إطار المسودة قبل أن يقرها مجلس الوزراء) يمكن أن تؤدي إلى تنفيذ مفكك وغير مكتمل لمساعي الإنعاش، مع عواقب وخيمة على الاقتصاد واستدامة من الدين العام، بعثت المصارف برسالة مفصلة جديدة الى الصندوق عبر مستشارها كارلوس عبادي، العضو المنتدب في شركة “ديسيشن باوندريز” للاستشارات المالية ومقرها نيويورك، والذي كانت تعاقدت معه جمعية المصارف في العام 2020 عندما رفضت الصيغة الأولى من الخطة في ولاية رئيس الحكومة السابق حسان دياب.
أبرز ما يثير القلق في الكتاب الموجه مجدداً الى راميريز والمرسل نسخة منه الى رئيسة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا ومدير الشرق الأوسط وآسيا الوسطى جهاد أزعور، هو في صفحاته الاخيرة حيث يدعو إلى استخدام احتياطيات الذهب لدى المصرف المركزي.
ينص الكتاب في هذه النقطة حرفياً على الآتي: “إن احتياطات الذهب هي أصول أجنبية لدى مصرف لبنان، كما الدولارات، واليورو، أو سندات الخزينة، ويجب استخدام قيمتها لخفض فجوة مصرف لبنان من العملات. صحيح أن هذا يتطلب قانوناً لاستعمال أي من الـ15 مليار دولار من الذهب، لكننا نرى أن تمرير هكذا قانون أقل إشكالية من أي محاولة لانتهاك الدستور عبر مصادرة 300 في المئة من الناتج المحل من دون أي تعوض عادل. ان الاحتياطات هي مخزونات موضوعة في الأيام الصعبة”.
هي المرة الأولى التي تطالب فيها المصارف جهاراً باستعمال احتياطات لبنان من الذهب بعد دعوتها في وقت سابق الى انشاء صندوق استثماري توضع فيه أملاك الدولة وتديره شركة مستقلة، بحيث توزع ايراداته على المصارف والمودعين حين يبدأ بتحقيق ايرادات.
مصادر مالية مطلعة استغربت في تصريح لـ”لبنان الكبير” هذا التوجه في وقت كانت المصارف دائماً تنادي بعدم استعمال هذه الوسادة التي يتمتع بها لبنان والتي تضعه في المرتبة الثانية عربياً بعد المملكة العربية السعودية من حيث كمية حيازاته من سبائك الذهب.
يملك لبنان 286.8 طناً، أي نحو 10 ملايين أونصة تناهز قيمتها 16.8 مليار دولار بحسب آخر وضعية نصف شهرية لميزانية مصرف لبنان.
ونبّهت المصادر على مخاطر استخدام الذهب نظراً الى رمزيته لبنانياً وعالمياً، وقالت إن الذهب هو نقطة القوة الوحيدة التي يملكها لبنان في أزمته، وأي عملية لرهنه أو بيعه تعني انهياراً شاملاً.
يذكر أنه في منتصف السبعينيات وأوائل الثمانينيات، قام مصرف لبنان بنقل جزء كبير من احتياطياته من الذهب إلى “فورت نوكس” (مبنى خزانة سبائك الإيداع الأميركية) لدواعي أمنية في ذلك الوقت.
وفي العام 1986، صدر القانون الرقم 42، ونص على الآتي: “بصورة استثنائية وخلافاً لأي نص، يمنع منعاً مطلقاً التصرف بالموجودات الذهبية لدى مصرف لبنان أو لحسابه مهما كانت طبيعة هذا التصرف وماهيته سواء أكان بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلا بنص تشريعي يصدر عن مجلس النواب”، وذلك مخافة الاستيلاء عليه من قبل الميليشيات المسلحة في حينه.
وكشفت المصادر المطلعة على أجواء النقاشات التي دارت عند إعداد خطة التعافي المالي والاقتصادي، أن موضوع استعمال الذهب طرح في إحدى الجلسات كجزء من حل يستهدف التعويض عن خسائر صغار المودعين.
وكانت إحدى صيغ الخطة أشارت إلى تسييل الذهب أو بيعه بهدف التعامل مع جزء من الأزمة النقديّة والماليّة.
لكن المصادر استطردت قائلة: “حتى لو بيع كامل كمية الذهب التي يملكها مصرف لبنان فلن يكون كافياً لتغطية حجم الخسائر الكبير المقدر وفق خطة التعافي بـ70 مليار دولار”.
وبالاضافة الى ذلك، فان الجزء الأكبر من سبائك الذهب موجود في الولايات المتحدة الأميركية، وليس سهلاً أبداً استرجاعه. فهي عملية معقدة تستغرق وقتاً وموافقة أميركية.
ولفتت المصادر إلى أن مسألة رفع الدائنين دعاوى على لبنان بسبب تخلفه عن سداد استحقاقتهم من سندات اليوروبوندز ستجعل مسألة استعمال الذهب أكثر تعقيداً، لاسيما وأن هؤلاء الدائنين سيرفعون الدعاوى في المحاكم الأميركية التي ستطلب الحجز على ذهب لبنان في الخارج. علماً أن هذه المسالة مثيرة للجدل، فمنهم من يقول بأحقية وضع اليد على الذهب، ومنهم من يرى أن استقلالية المصرف المركزي عن الدولة وديونها لا تسمح باتخاذ هذا الاجراء القانوني.
ويجري مصرف لبنان جردة شاملة للذهب الموجود في خزائنه للتأكد من الحجم الحقيقي للمخزون. وقد تقاطع إعلان هذا الأمر مع التوقيع على الاتفاق الأولي مع صندوق النقد الدولي في نيسان الماضي. فهل هذا الاجراء يشكل خطوة تحضيرية للتصرف به؟
على أي حال، فإن المصارف عرضت في كتابها الى رئيس بعثة صندوق النقد الدولي خطة من سبع نقاط هي:
- لا تستند الخطة الى أي رؤية اقتصادية للبنان.
- هي عبارة عن خطة محاسبية وليست حلاً اقتصادياً للبنان.
- تطبيق الخطة غير قانوني وغير دستوري.
- تعتمد على “نقاط نقاش مضللة في المجتمع المدني اللبناني”.
- تتعامل الخطة مع مطلوبات مصرف لبنان بطريقة غير منتجة.
- يمكن التوصل الى استدامة الدين في لبنان بطريقة أفضل مما تنص عليه الخطة.
- تحرم جمعية مصارف لبنان بصورة غير عادلة من حقوقها.
ولسد الفجوة المالية، تدعو الرسالة إلى تجميع أصول الدولة في شركة استثمارية وتحويل ما يصل إلى 30 مليار دولار من الودائع إلى الليرة على أن تسدد على مدى عشر سنوات، وإلغاء معاملات النقد الأجنبي المنفذة بعد بداية الأزمة في عام 2019 من الليرة إلى الدولار.
وتقول: “إلغاء معاملات النقد الأجنبي هذه من شأنه أن يعفي المصرف المركزي من التزامات تتراوح بين 10 و15 مليار دولار”.
بيان جميعة المصارف
ومساء أمس، أصدرت جمعية مصارف لبنان بياناً أوضحت فيه أنها لا تعارض بالمطلق الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، خصوصاً وأنها تعتبر أن هذا الاتفاق هو أحد أبواب الحل للخروج من الأزمة الحالية. “الا أن الجمعية تشدد في الوقت عينه على أن أي حل يجب أن يوفق ما بين تراتبية المسؤوليات ونسبة تحمل الخسائر، ولا يتم تحميل القطاع المصرفي والمودعين كافة الخسائر التي تسبب بها القطاع العام على مر السنين”، أضافت الجمعية في بيانها من دون أن تتطرق مباشرة الى الرسالة التي رفعتها الى الصندوق. وقالت الجمعية إن “الجهود يجب أن تتضافر للبحث في الحلول المتوافرة حالياً لردم الفجوة المالية عبر المحافظة على الودائع وليس شطبها”.