بكثير من النوستالجيا، يعود اللبنانيون بين الفينة والأخرى الى أمسهم، فيستذكرون محاسن وطنهم وميزاته، وكيف أن حاكم دبي قال يوماً ان حلماً تردّد في ذهنه أن تكون دبي كبيروت.
وسرعان ما تروح السكرة وتجيء الفكرة فارضةً مقارنة غير عادلةٍ بين ما آلت إليه بيروت من جهة، وبين دبي وسواها من الجهة المقابلة.
ففي حين حجزت دبي موقعاً متقدماً في النصف السعيد من هذا الكوكب، يرزح لبنان اليوم في القعر الأدنى من جهنّم عهده.
وتتوالى الأخبار السعيدة في إمارة الريادة، وفي غضون شهر شملت ما يلي: حلول جواز السفر الإماراتي في المركز الأول عربياً والـ15 عالمياً، توقيع اتفاقيات ومذكرات تفاهم مع الدولة الفرنسية، تأسيس صندوق وطني بقيمة 3 مليارات درهم لدعم قطاع الفضاء، استثمار ملياري دولار لتطوير سلسلة مجمعات غذائية متكاملة في الهند بهدف التصدي لانعدام الأمن الغذائي في جنوب آسيا والشرق الأوسط، وإطلاق مبادرة الجيل التالي من الاستثمارات الأجنبية المباشرة والتي تهدف الى جذب أفضل الشركات الرقمية في العالم.
وفي هذا الوقت، كانت نيران جهنم تستعر في لبنان، من معضلة جوازات السفر الى أزمة الكهرباء والطحين والمحروقات، والتجاذبات الأمنية المتمثلة من جهة في مشهدية اقتحام القاضية غادة عون للمصرف المركزي وما يتأتى عنها من زعزعة في السوق النقدية، ومن جهة أخرى توقيف المطران موسى الحاج وما خلقه من تأجيج طائفي للشارع اللبناني..
الفرق شاسع لا ريب، ولكن كيف وصلنا إلى هنا؟ متى تخلّفنا عن اللحاق بركب التطور والتنمية الذي انتهجته دول المنطقة؟
قد تكثر الأسباب ووجهات النظر، ولكن ما قد لا يدركه البعض، ويتجاهله البعض الآخر، هو كلفة التعطيل. محاولات التنمية والإنماء بدأت في لبنان منذ مطلع التسعينيات، بعد أن ورث رفيق الحريري تركةً ثقيلة من أمراء الحرب، قُدّرت كلفتها المادية بـ25 مليار دولار بحسب البنك الدولي. ومع ذلك تمكّن الحريري بين العامين 1992 و1998 من خلق مساحة للتنمية، وللنمو الذي بلغ 16.4% مع حكومته الأولى.
وإلى جانب الأضرار المادية، كلفت الحرب لبنان ضياع 15 عاماً من التنمية المحتملة. وبينما تقع مسؤولية تعطيل التنمية بين العامين 1975 و1990 على عاتق الحرب، فالمسؤولية نفسها تقع على عاتق النظام الأمني اللبناني – السوري بين العامين 1990 و2005.
خلال هذه الفترة، احترف النظام لعبة التعطيل من الداخل، عبر ودائعه في حكومات الحريري. وتميزت هذه المرحلة بوجود أوركسترا نيابية تولت مهمة تضليل الرأي العام وتوجيه أصابع الإتهام الى الحريري عند كل مفترق طرق، وبتجاوز ضباط المؤسسات الأمنية صلاحياتهم المنصوص عليها في القانون، وبإجهاض رئيس الجمهورية السابق إميل لحود كل البنود الإصلاحية التي أدرجها رفيق الحريري على سلسلة الرتب والرواتب التي أقرت في العام 1998، ورفض تطبيق قانون الكهرباء رقم 462، وقانون الإتصالات رقم 431، وقانون الطيران المدني رقم 481، إضافة الى الإطاحة بكل الإصلاحات التي أقرت في مؤتمري باريس 1 و2، والتي شملت برامج لتخفيف الأعباء وكلفة الدين العام والإنفاق.
المرحلة الثالثة هي تلك الممتدة بين العامين 2005 و2019، حين تسلّمت فلول النظام السوري شعلة التعطيل، فشاركت في الحكومات وأضاعت ما مجموعه 7 سنوات من أصل 15 سنة تعطيلاً، بين فراغٍ رئاسي وبرلماني وحكومي. ويبلغ مجموع مدة الفراغ الرئاسي 3 سنوات تقسم كالتالي: 184 يوما بين انتهاء عهد لحود وبداية عهد الرئيس ميشال سليمان، و890 يوماً بين نهاية عهد سليمان وبداية عهد ميشال عون. أما الفراغ النيابي فمجموعه سنة ونصف السنة، حين أقفل البرلمان من 11 تشرين الثاني 2006 وحتى 21 أيار 2008. إلى ذلك، بلغت فترة الفراغ الحكومي سنتين ونصف السنة.
تلت ذلك مرحلة الأزمة المالية والنقدية الممتدة منذ أواخر العام 2019 وحتى اليوم، وهي التي شهدت على تدهور الليرة وانهيار القطاعات الخدماتية والانتاجية، وما تبعها من مشكلات اجتماعية وحياتية.
هكذا إذاً خسر لبنان ما يقارب الـ30 عاماً (15 عاماً من الحرب الأهلية + 7 أعوام من المناكفات في عهد لحود + و7 سنوات من تعطيل السلطات) من أصل 45 عاماً (1975 – 2020) من فرصة تحقيق التنمية والنمو في الوقت الذي كانت دول أخرى تلحق بركب التنمية ولو بسرعات متفاوتة، ليؤول الوضع الى ما هو عليه، ويصبح بلداً فاشلاً عالقاً في شرك التعطيل والتجاذبات الأمنية والسياسية، ومتخلفاً مقارنةً بالكثير من أقرانه وجيرانه.