يستمر موظفو القطاع العام في إضرابهم المفتوح في خطوة ضاغطة على الحكومة من أجل تحسين رواتبهم وبدل تنقلاتهم، بعد أن دخلت المؤسسات والإدارات العامة كافة حالة من الشلل العام منذ أسابيع عدة. وعلى الرغم من إعلان وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال يوسف الخليل أن اللجنة الوزارية التي اجتمعت برئاسة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في السراي أمس، وافقت على الطرح الذي أعدته وزارة المالية ويقضي بإعطاء بدل إنتاجية مقطوع يومياً للموظفين العاملين في الإدارة العامة يتراوح ما بين 150 و350 ألف ليرة يومياً شرط حضور المستفيد ثلاثة أيام أسبوعياً على الأقل وذلك من يوم الاثنين حتى يوم الخميس من كل أسبوع خلال الدوام الرسمي، إلا أن ذلك لا يعني انتهاء الأزمة التي لا تزال تدور في دوامة من غياب الحلول الجذرية.
سياسات خاطئة
وفي هذا الاطار، اعتبر الأستاذ الجامعي والاستشاري في الشؤون المالية والادارية مروان قطب في حديث لموقع “لبنان الكبير”، أن “السياسات المتعلقة بالرواتب والأجور هي من أهم المؤثرات على القوة الشرائية للعملة الوطنية، ليس في لبنان وحسب، إنما في الدول كافة لا سيما وأنها تعد إحدى المكونات الأساسية التي تُحدد الكتلة النقدية المتواجدة في الاقتصاد الوطني. أما تاريخياً في لبنان، فإن إساءة التعامل مع سياسة الرواتب والأجور أدت إلى العديد من الأزمات”، مشيراً إلى أن “الأزمة التي وقعت في العام 1992 وأدّت إلى ارتفاع الدولار إلى 3000 ليرة قبل أن يأتي الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى الحكم كانت نتيجة سياسات تتعلق بالرواتب والأجور، أدت آنذاك إلى انهيار قيمة الليرة، ولم يستقر الدولار على الـ 1500 إلا لغاية العام 1997، في حين أن الزيادة الأولى للعاملين في القطاع العام حصلت في العام 1998”.
أضاف: “في عهد الرئيس ميشال سليمان الذي أراد حينها تعزيز وضع القضاة من أجل منحهم استقلالاً مادياً ووظيفياً، ارتفعت الزيادة بصورة كبيرة وتجاوزت المئة في المئة، وكان أكثر المعارضين لها الرئيس فؤاد السنيورة. هذا الأمر دفع أساتذة الجامعة اللبنانية إلى المطالبة بالمساواة مع القضاة، بحيث أقرت سلسلة الرتب والرواتب لأساتذة الجامعة، وبعدها طالت جميع مكونات القطاع العام. وفي عهد حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في العام 2011 تمت دراسة سلاسل الرتب والرواتب للقطاع العام وتضخيمها بصورة كبيرة، وحمّل إقرارها الاقتصاد الوطني أعباء كثيرة وزادت حجم الكتلة النقدية، الأمر الذي أدى إلى تدهور القوة الشرائية للعملة الوطنية لتصبح من أحد العوامل التي أدّت إلى الأزمة التي وقع فيها لبنان في العام 2019 وتجلت في انهيار العملة الوطنية وفقدانها للقوة الشرائية بالتزامن مع وجود تضخم بمعدلات مرتفعة، جعلت راتب الموظف غير كاف لتأمين احتياجاته الأساسية، إلى جانب أزمة المحروقات التي منعت الموظف من الوصول إلى مكان عمله”.
أزمة حادة
هناك أزمة حادة لا تتعلق بإعطاء زودة على الراتب وحسب، بل هي أبعد من ذلك وتتعلق بتأمين وصول الموظفين إلى العمل، بحسب قطب، موضحاً أن “المطالبة ليست برفع الرواتب والأجور وحسب، بل بتمكينهم من الوصول إلى مكاتبهم وهذا متعذر في الوقت الراهن بسبب بدل النقل الضئيل خصوصاً وأن النفقات المتعلقة ببدل النقل تعتبر من أعباء الوظيفة التي يجب أن يتحملها رب العمل وليس العامل، فضلاً عن مستوى الرواتب التي أصبحت قيمتها الشرائية متدنية جداً. حتى أن المساعدة الاجتماعية التي أعطيت لموظفي القطاع العام لا تستطيع الحكومة تسديدهاها بسبب وجود شح في الموارد المالية، كما أن مصرف لبنان لم يعد قادراً على طباعة النقد لأن ذلك يؤدي إلى المزيد من انهيار في الليرة”.
موارد جديدة
ورأى قطب أن “الحلول تكمن في البحث عن موارد جديدة أبرزها وجود الكثير من الرسوم التي يمكن فرضها بالدولار كرسوم المطار ورسوم المرافئ، إذ لا يوجد مانع من تعديل القانون المتعلق بها لا سيما وأن البلد يمر في ظروف استثنائية وما تم فرضه بقانون يمكن أن يعدل بقانون أيضاً من أجل تحصيل بعض الرسوم بالدولار فريش التي من شأنها تأمين مورد بالعملة الأجنبية تُقدر بـ 350 مليون دولار، الأمر الذي يستدعي المضي قدماً من أجل اعتماده في أقرب جلسة تشريعية، بحيث يُعتبر عدم إقراره أمراً مضراً بالمالية العامة. من جهة أخرى، يوجد الدولار الجمركي أو الدولار الضريبي وفقاً لسعر منصة صيرفة. بالنسبة الى الدولار الضريبي، سيتم على سبيل المثال احتساب الـ T.V.A على سعر منصة صيرفة ما سيؤدي حتماً إلى ارتفاع أسعار سلة كبيرة من السلع والخدمات. كذلك الأمر بالنسبة الى الدولار الجمركي خصوصاً وأن هناك نسبة كبيرة من السلع تخضع للرسوم الجمركية وجعل الدولار الجمركي على سعر صيرفة حالياً أي 25600 ليرة سيرفع المستوى العام للأسعار وسيؤثر على القدرة الشرائية للمواطنين، وهي خطوة غير محبذة في هذه الظروف لأن ذلك سيؤدي إلى زيادة انهيار قيمة العملة اللبنانية وتراجع القوة الشرائية للمواطنين وزيادة مستوى الفقر، ويفضّل عدم الخوض فيه حالياً والتركيز في المقابل على الرسوم التي يمكن أن تحصلها الدولة بالدولار وخصوصاً من جهات أجنبية، بحيث يمكن رفع قيمتها لكي تصبح أعلى من النسب المفروضة حالياً إلى حين أن تبرز الحلول الشاملة التي تؤمن التمويل لرواتب القطاع العام”.
عواقب غير محمودة
وعن هذه الرواتب، أوضح قطب أن “اقتراح زيادة الرواتب 3 أضعاف وبعد فترة زمنية أخرى 4 أضعاف وما إلى هنالك، هي جميعها حلول إذا لم تقترن بمعالجات متكاملة فستؤدي الى تضخيم الكتلة النقدية وإلى وصول الدولار إلى ارتفاعات قياسية ووهمية وهذا أمر غير مرغوب فيه. صحيح أنه لا بد من إعطاء القطاع العام زودة من أجل تأمين الحد الأدنى من المعيشة اللائقة والمساواة بينه وبين القطاع الخاص، إلا أن زيادة الرواتب 4 أو 5 أضعاف سينتج عنها انهيار مريب للأوضاع النقدية والمالية ستكون عواقبه غير محمودة”.
وإذ أكد أن “المساعدة الاجتماعية (راتب شهر) التي تُمنح اليوم يجب أن تُثبت وأن يتم رفع بدل النقل عن كل يوم عمل فعلي من أجل تشجيع الموظفين على الحضور”، شدّد على أهمية “أن تكون الخطوات والقرارات التي تُتخذ مدروسة لتحقيق الحد الأدنى من الاستقرار المالي”.
حل مقبول
وعما أعلنه وزير المالية يوم أمس، قال قطب: “إن ذلك يشكل حلاً بالحد الأنى لأن المطالبة بأن تُحدد الرواتب على أساس سعر صرف 8000 أي بزيادة قدرها 4 أضعاف سيضغط مجدداً على العملة الوطنية وسيسهم في انهيارها أكثر وأكثر ويضخم من الكتلة النقدية بطريقة لن يكون الاقتصاد قادراً على تحملها. وعليه، يمكن القول ان ما تطرحه الحكومة هو حل مقبول في الوقت الحالي إلى حين إجراء اتفاق مع صندوق النقد الدولي يفتح الباب أمام عودة التدفقات النقدية بالعملة الأجنبية وعودة الاقتصاد إلى مجراه الطبيعي، وعدا ذلك تكون هذه المطالب مدمرة للاقتصاد والأوضاع النقدية”.