استخدم البحارة المصريون أشرعة من قصب مجدول في سفنهم في مطلع القرن السادس والثلاثين قبل الميلاد تسخيراً للرياح كي يسييروا قواربهم على طول النيل، فيما يُعدّ أول ابتكار للمراكب الشراعية في تمكين التجارة البحرية. تُكيف شركات الشحن البحري في العصر الحديث التقنية القديمة سعياً لمجابهة تحدي القرن الحادي والعشرين: كبت انبعاث غازات الدفيئة.
تستثمر بعض أكبر شركات التجارة البحرية في إعادة تهيئة سفن أو بناء أخرى بتصاميم حديثة لتسخير طاقة الرياح تلبيةً لأهداف مكافحة التلوث ومعايير الانبعاثات. سيؤدي التحوّل إلى سفن تجارية تعمل بطاقة الرياح، باستخدام بدائل سواء كانت طائرات جر شراعية عملاقة لسحب سفن الشحن أو أشرعة قابلة للنفخ أو إسطوانات دوارة سريعة تولّد الدفع؛ لمضاعفة أعداد تلك السفن بحلول 2023. رغم أنها باشرت ذلك انطلاقاً من أرضية ضعيفة، إلا أن عمالقة الشحن العالمي، بما فيهم “كارغيل” (Cargill) و”ميرسك تانكرز” (Maersk Tankers) و”ميتسوي” (Mitsui)، يتجهون نحو طاقة الرياح لخفض الانبعاثات، ويراهنون على التقنية المعاد إحياؤها للمساعدة لتحقيق هدف الصناعة في خفض انبعاثات الغازات الدفيئة من الأسطول العالمي بنسبة 50% بحلول 2050، مقارنة مع مستويات 2008.
الانبعاثات.. أكبر مشكلة تواجه سفن الحاويات الضخمةقال كريستوفر بالسون، العضو المنتدب لشركة “ماريتايم إنسايت” (Maritime Insight)، وهي شركة استشارية في قطاع التجارة البحرية: “هناك شعور بالضغط للتحرك واتخاذ إجراءات فورية. يولي القطاع حالياً كثيراً من الاهتمام لطاقة الرياح بعد بضع سنوات من النشاط البطيء، حيث نشهد كثيراً من الزخم والنشاط. لكن سيستغرق الأمر بعض الوقت”.ستستفيد 25 سفينة تجارية، بما فيها سبع سُلمت في 2022، من الابتكارات التي تعمل بالرياح بحلول نهاية العام الجاري، وفقاً لتقديرات “الرابطة الدولية لطاقة الرياح” (International Windship Association) التجارية؛ بل أن هذا الرقم سيتضاعف تقريباً إلى 49 سفينة بحلول نهاية 2023.نُفذت عمليات تسليم أو الطلبيات البارزة خلال الأشهر الثمانية عشر الماضية، رغم تعطلها بسبب الوباء. على سبيل المثال، ركبت شركة “أيرسيز” (Airseas)، التي أسسها مهندسون سابقون في عملاقة صناعة الطائرات “إيرباص” (Airbus SE)، شراعاً طائراً من قماش مرن مستأجر من “إيرباص” فوق سفينة تابعة لأسطول شركة “لويس دريفوس أرماتيورز” (Louis Dreyfus Armateurs)، ويمكن بسطه بضغطة زر. ستخفض الأداة سالفة الذكر تكاليف شحن الوقود وانبعاثات الغازات الدفيئة بقدر الخمس، أو ما يصل إلى 10 آلاف طن متري من ثاني أكسيد الكربون سنوياً، حسبما تقول الشركة.
قالت ستيفاني لوساج، سكرتيرة شركة “أيرسيز” إن التركيز على كبح الانبعاثات التي ينفثها قطاع الشحن البحري يسرع تبني الابتكارات القائمة على طاقة الرياح.. يدرك مالكو السفن أن عليهم تقليل انبعاثاتهم الآن، ويحتاجون إلى البدء في الاستثمار لتحقيق أهداف 2050. لذا، من المنطقي بالنسبة لهم تضمين طاقة الرياح كجزء من أي حل، فهي مصدر وفير ومجاني وغير محدود للطاقة”.أشرعة صلبةعززت شركة الشحن اليابانية “كاواساكي كايسن كايشا” (Kawasaki Kisen Kaisha)، أو “كي لاين” (K Line)، طلبيات الطائرات الورقية من “أيرسيز” إلى خمس طلبيات ووقعت عقداً لتركيب ما يصل إلى 50 طائرة فوق أسطولها المكون من نحو 420 سفينة في يوليو. قال ميتشيتومو إيواشيتا، المدير التنفيذي لشركة “كي لاين”، في بيان صحفي أن نشر تقنيات الدفع بطاقة الرياح تشكل “مكوناً رئيسياً في استراتيجيتنا” لاعتماد هدف طموح يتمثل في تحقيق الحياد الكربوني بحلول 2050.مستقبل الطاقة أكثر نظافة.. وأكثر تلويثاً أيضاًستختبر “كارغيل” في غضون ذلك شراعين صلبين بارتفاع 37 متراً مصنوعين من الفولاذ والزجاج المركب، واللذين سيحملهما ناقل يبلغ ارتفاعه 230 متراً استأجرته عملاقة السلع الغذائية من شركة “ميتسوبيشي”. يتجاوز طول السفينة 220 متراً، ويمكن أن يساعد الشراعان بخفض الانبعاثات على سفينة بنيت حديثاً لتعمل بطاقة الرياح بنسبة تصل إلى 30%، ما يعادل 6400 طن متري من ثاني أكسيد الكربون سنوياً تقريباً، وفقاً لشركة “كارغيل”. تنوي عملاقة السلع الغذائية تخصيص السفينة لعمليات النقل التجارية لمدة تصل إلى ستة أشهر بعد تسليمها في الربع الأول من 2023. كما تخطط “كارغيل” لتعديل ما يصل إلى 10 سفن أخرى إذا نجحت التجربة، حسبما يقول يان ديليمان، رئيس أعمال النقل البحري في الشركة.قال ديليمان: “تشكل إزالة الكربون جزءاً كبيراً جداً من أهدافنا، فهي أكبر تحد تواجهه الصناعة. إذا كنت تريد حقاً إجراء تغيير تدريجي، فأنت بحاجة للوصول إلى طاقة الرياح وغيرها من أنواع الوقود الخالية من الانبعاثات. هذا ما نعمل عليه إلى حدّ كبير”.ينقل قطاع الشحن البحري 90% من حجم التجارة العالمية، ويمثل 3% من انبعاثات الغازات الدفيئة على مستوى العالم، أو ما يقرب من مليار طن متري من ثاني أكسيد الكربون سنوياً. لذا اعتمدت “المنظمة البحرية الدولية”، وهي وكالة تابعة للأمم المتحدة تنظم تلوث الهواء الناجم عن صناعة الشحن؛ تدابير إلزامية لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة. فاعتباراً من مطلع يناير، سيتعين أن تفي السفن التي يزيد وزنها الإجمالي عن 400 طن بكفاءة استخدام طاقة معينة، وسينبغي على معظم مالكي السفن تطبيق تدابير تقنية لتتوافق انبعاثاتهم مع المستويات المطلوبة. كما ستُلزم السفن بالتوافق مع هذه المعايير للحفاظ على استمرار عملها التجاري عالمياً.عودة للماضيمع التركيز على خفض الانبعاثات بشكل جذري، يُرجح أن تواجه صناعة النقل البحري تحولاً على مدى عقود عديدة مقبلة يشبه ما واجهته في نهاية القرن التاسع عشر من خلل هائل حينما فقدت السفن التجارية المدفوعة بطاقة الرياح والأشرعة شعبيتها سريعاً حين جلبت الثورة الصناعية محركات الديزل.عندما تأسست “الرابطة الدولية لطاقة الرياح” في 2014، كان مالكو السفن يسخرون أو يغادرون القاعة كلما تطرق أمين عام المجموعة، غافين أولرايت، لاستخدام طاقة الرياح لتسيير السفن التجارية. بينما يصطفون الآن، كما يقول، لمعرفة أحدث أخبار ابتكارات طاقة الرياح حين يدير مكالمات حول تقنيات طاقة الرياح عدة مرات في الأسبوع.قال أولرايت إن هناك حوالي 12 نظاماً لدفع السفن باستخدام طاقة الرياح في السوق، فضلاً عن طرح ما يصل إلى سبعة أنظمة أخرى في 2023. تقدم شركات عديدة، بما في ذلك “نورسباور” (Norsepower) في هلسنكي، الأشرعة الدوارة التي تُعدّ واحدة من أكثر الابتكارات تطوراً منذ ظهور العنفات في عشرينيات القرن الماضي. يمكن أن يصل ارتفاع الإسطوانات الضخمة المستديرة التي تشبه المداخن إلى 35 متراً وتدور لتخلق فرق ضغط من شأنه دفع السفينة إلى الأمام.تتسابق شركات من بينها “بار تكنولوجيز” (BAR Technologies)، التي صممت الأشرعة الصلبة البالغ ارتفاعها 37.5 متر، والتي ستنصب على متن سفينة “كارغيل” المستأجرة، لتثبيت أشرعة متعددة على السفن. تقول مصنعة الإطارات “ميشلان”، إنها ستنصب شراعاً آلياً على شكل جناح قابل للنفخ والطي تبلغ مساحته 100 متر مربع فوق ناقلة حاويات لتجربته في وقت لاحق من العام الجاري. كما نصبت شركة “إيكونويند” (Econowind)، ومقرها هولندا، جهاز “فينتيفويل” (Ventifoil) المصمم على هيئة جناح ليخلق قوة جر قادرة على توليد قوة دفع على متن سفينتي شحن هذا العام، بينما تطور الشركات الأخرى شراعاً يمكن وضعه في حاوية بعد استخدامه ونقله بسهولة إلى سفن الأخرى.سعي حثيثتحول القطاع إلى خلية تضج بالنشاط بدفع من أسعار الوقود القياسية والأهداف الطموحة للانبعاثات العالمية، إضافة إلى حقيقة أن تطوير الوقود النظيف والأخضر لسفن الشحن البحري سيستغرق سنوات وسيكون مكلفاً للغاية عند طرحه في الأسواق. كما لا يُتوقع إتاحة أنواع الوقود عديمة الانبعاثات مثل الهيدروجين الأخضر والميثانول والأمونيا، وهي أركان أساسية في خطط إزالة الكربون من الصناعة، لشركات الشحن البحري لاستخدامها على نطاق واسع قبل 2031. سيحتاج قطاع الشحن البحري حينها للتنافس على الإمدادات مع صناعات أخرى تتطلع للتحول لتكون صديقة للبيئة، كما يقول ديليمان من “كارغيل”.يبين ديليمان: “سنصل إلى الشحن البحري عديم الانبعاثات فقط عندما يكون لدينا وقود شحن محايد كربونياً، وهذا ما يزال أمراً بعيد المنال. لقد ضاعفنا جهودنا في مجال طاقة الرياح، حيث تتمتع بأكبر ميزة كونها متاحةً ومجانية. لطاقة الرياح دور اليوم، وسيكون لها دور في المستقبل”.صناعة شحن الحاويات تجني كثيراً من المال.. لكن إلى متى؟تعاونت شركات “كارغيل” و”ميرسك تانكرز” و”ميتسوي” في 2019 لتأسيس “نيورد” (Njord)، وهي شراكة تقدم مجموعة قوامها 20 تقنية تقريباً للحد من الانبعاثات، بما فيها الأشرعة الدوارة. وقعت “نيورد” عقوداً مع 15 عميلاً للمساعدة بتطبيق الحلول الخضراء، بما فيها طلاء الهياكل لكبح قوى السحب وتثبيت البرامج لتعزيز كفاءة استخدام الطاقة.يشكل الاستثمار الرأسمالي الذي تتطلبه الأنظمة العاملة بطاقة الرياح أكبر عقبة أمام عديد من مالكي السفن، إذ يمكن أن تكلف الدوارات والأشرعة الصلبة مليون إلى 1.5 مليون دولار ببساطة لنصب كل منها، وغالباً ما تحتاج السفن إلى ثلاثة أشرعة أو أكثر على الأقل. يقول ديليمان إن مدة تحقيق العائد على الاستثمار عادة ما تتراوح بين سبع إلى ثماني سنوات. لكن مع ارتفاع تكاليف الوقود، يمكن تقليص هذا الوقت، حيث تعتبر أربع إلى خمس سنوات مدة مثالية لمساعدة مالكي السفنالملاحة، السفو على الالتزام، كما يقول أولرايت من “الرابطة الدولية لطاقة الرياح”.يمكن لـ”نيورد” أيضاً المساعدة بالتمويل، حسبما يقول مديرها الإداري فريدريك بيند. تقدم الشركة حزمة تمويل يمكن أن تشمل شركاء يمولون المشاريع ويتقاسمون وفورات التكلفة مع مالكي السفن، كما تقول.كما تفحص “نيورد” 12 سفينة لتحديد إمكانية تطبيق حلول طاقة الرياح، التي يمكن دمجها مع أدوات أخرى لزيادة الكفاءة. قال بيند: “هناك حلول يمكن تنفيذها الآن ولم تتبناها الصناعة. لا يسعنا انتظار الوقود الأخضر الجديد فحسب. نحن بحاجة لإزالة الكربون الآن”. “بلومبيرغ الشرق”