قد يبدو للبعض أن الوضع المستجد في مصر شبيه الى حد كبير بالوضع اللبناني بعد الإنهيار الدراماتيكي في الواقعين الإقتصادي والمالي الذي ضرب لبنان منذ أربع سنوات ولا يزال. لكن في الحقيقة أن الأمور مختلفة تماماً ،فلبنان يعاني من سوء حوكمة سياسية إضافة الى تراجع في كفاءة وإنتاجية المؤسسات الرسمية ،ناهيك عن التردي بالأداء السياسي الذي يكاد يوصف بأنه الأسوأ في العالم والذي يقف عائقا امام إقرار أي من السياسات الصحيحة والمناسبة ،إضافة الى عدم القدرة على إقرار أي من الإصلاحات الضرورية التي قد تمهد الطريق لتوقيع إتفاق مع صندوق النقد الدولي يكون مؤشرا للحصول على دعم مالي وإشارة لاستعادة الثقة بمؤسسات الدولة اللبنانية الفاقدة للثقة تماماً ، خاصة بعد الإعلان الشهير خلال فترة الحكومة السابقة برئاسة حسان دياب عن التوقف عن الدفع ، وهو القرار التاريخي الذي أعلن فيه إفلاس الدولة اللبنانية وفشلها.
في مصر تتعقد الأزمة الاقتصادية والاجتماعية أكثر فأكثر، مع تفاقم وتراجع العملة المحلية في مقابل الدولار بنسبة بلغت الأسبوع الماضي 104 بالمئة في المصارف الحكومية قبل أن تتحسن قليلا لتصل نسبة التراجع إلى 91 بالمئة. وبلغت قيمة انخفاض الجنيه المصري مجملاً 50 في المئة منذ ستة أشهر عقب تخفيضه في وقت سابق في خضم 10 أشهر إستجابة لمطالب صندوق النقد الدولي.هذا الوضع النقدي المتأزم في مصر، سيزيد من تعقيد الظروف المعيشية للمواطن المصري في أكبر بلد عربي ديمغرافياً، حيث يبلغ عدد سكانه حسب بعض المصادر، نحو 105 مليون نسمة مسجلين رسمياً ويقدر أن هناك عددا لا بأس به غير مسجلين ،خاصة وأن البلاد عرفت نسبة تضخم تجاوزت وفق بيانات رسمية 30 بالمئة. وتتأثر القدرة الشرائية للمواطن المصري بشكل غير مباشر بالتحولات السلبية في قيمة العملة المحلية، بحكم أن البلد يستورد غالبية حاجياته، ويكون مطالبا بشرائها بالعملة الصعبة في مقابل جنيه في أسوأ حالاته النقدية.تجدر الإشارة الى أنه مع نهاية العام 2022 وخلال الشهر الأخير منه ، وافق صندوق النقد الدولي على منح مصر قرضاً بقيمة ثلاثة مليارات دولار تسدد على 46 شهراً. ولكن هذا القرض ليس سوى قطرة في بحر إذ تثقل كاهل الدولة ديون تقدر بحوالي 42 مليار دولار، يجب عليها سدادها خلال السنة المالية 2022-2023.تبدو أهداف الحكومة في المصرية من خلال الإتفاق مع الصندوق واعدة، غير أن الشكوك في واقعيتها تتزايد لأكثر من سبب، يقول الخبير الاتصادي والمالي بلال علامة لـ”لبنان 24″ فدفعات القرض التي ستقدم خلال أربع سنوات والتمويلات الإضافية المتوقعة تبدو متواضعة إزاء حجم الأموال المطلوبة لتحقيق هذه الأهداف. فحجم الديون الخارجية يقترب من 177 مليار دولار في مقابل أقل من 140 مليار دولار للعام 2021. ووفقاً لبعض التقارير الرسمية الصادرة سابقاً فإن الدين العام المصري يشكل حالياً 89 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي .أو مما يعنيه ذلك أن خدمة الدين ستزيد سنوياً على 20 مليار دولار وقد ترتفع أكثر في وقت تتراجع فيه إحتياطات البنك المركزي المصري من العملة الصعبة وترتفع فاتورة المستوردات من السلع الأساسية بشكل لا مثيل له منذ عقود. ويأتي هذا الإرتفاع غير المتوقع بسبب تبعات الحرب في أوكرانيا وإستمرار تبعات جائحة كورونا السلبية على الإقتصاد العالمي.لقد عمدت الحكومة المصرية الى إتخاذ سلسلة من الإجراءات المالية التي من شأنها تخفيف الضرر الإقتصادي الناتج عن الأسباب المذكورة سابقاً منها تقييد حركة خروج الأموال بالعملات الصعبة من مصر إضافة الى تقييد حركة التداول بالدولار الاميركي . وتأتي هذه الخطوة، بحسب علامة، بعد تنصل الولايات المتحدة الأميركية وبعض دول الخليج من تعهداتها إتجاه الدولة المصرية بمدها ومساعدتها من خلال القروض والمساعدات بالدولار الاميركي وهذا ما لم يحصل.تلقت مصر خلال السنوات الماضية سلسلة قروض إقليمية ودولية لم تعرفها البلاد منذ عقود. أما سياستها الحالية فتركز على تعزيز صادرات الغاز ومواد أولية وزراعية، في الوقت الذي ترتفع فيه فاتورة المستوردات من الحبوب والزيوت النباتية ومستلزمات الأدوية والمواد الأولية بمعدلات أعلى ،فلم تنجح حتى الآن في كسر الحلقة المذكورة رغم بعض النجاحات في الحد من إرتفاع فاتورة مستوردات السلع الكمالية، يقول علامة. وعلى ضوء هذا الواقع تريد الحكومة من الآن وصاعدا إتباع سياسة جديدة تهدف إلى تفعيل دور القطاع الخاص في عملية التنمية بشكل يساعد على تنويع الإنتاج المحلي ومصادر الدخول بشكل يساعد على تحقيق الاكتفاء الذاتي من السلع الأساسية. وينبغي لذلك أن يتم من خلال خارطة طريق تحدد مجالات إضافية لنشاطه وخصخصة مؤسسات تابعة للدولة بهدف جعلها أكثر كفاءة.حالياً فإن الوضع في مصر يوصف بـ الوضع الصعب للغاية وله مسبباته السياسية والاقتصادية طبعاً. والسبب الاساسي، وفق علامة يعود الى ارتفاع أسعار القمح والحبوب في البورصات العالمية بنسبة وصلت إلى 40%، مما أدى إلى زيادة الطلب المصرى على الدولار، حيث أن مصر من أكبر الدول المستوردة للقمح. وتبلغ الواردات المصرية من القمح ما قيمته 3 مليار دولار. إضافة الى الأضرار الجانبية للحرب الروسية الأوكرانية التي تدفع ثمنها مصر اليوم بسبب إرتفاع أسعار القمح والحبوب وإذا لم تتوقف هذه الحرب، فنتائجها ستزيد وقد التي أثرت على دول الاتحاد الأوروبي بأكملها وليس مصر فقط وإن كان بمستوى أكثر.أما بقية الأسباب الاقتصادية التي أدت لهذا الوضع،فهي بحسب توصيف علامة:- خروج ما يقرب من 25 مليار دولار من استثمار الأجانب فى أذونات وسندات الخزانة المصرية خلال فترة آذار 2022. وقد تسبب هذا الخروج في إنخفاض الاحتياطى النقدى لدى البنك المركزى من 40 مليار دولار إلى 33 مليار دولار.- ارتفاع الأسعار العالمية أدى إلى ارتفاع كافة أسعار الواردات. وارتفعت قيمة الواردات من 68 مليار دولار فى نهاية 2021 إلى 87 مليار دولار فى نهاية 2023.”بالنسبة للدعم الخليجي فالحالة “لا تبشر بالخير خاصة في ظل تخلي دول الخليج عن مساعدة مصر، وهي السعودية، الإمارات وقطر … التي كانت تساعد القاهرة في بعض الأزمات والأوقات منذ سنوات كثيرة جداً”. والرئيس المصري ذكرها بوضوح في الفترة الأخيرة وقال فيما معناه: “لم تساعدنا الدول التي كانت تقوم بذلك في الماضي. وليس أمامنا إلا خيار الاعتماد على أنفسنا”.وإتخذت الحكومة المصرية قرارات عدة نشرتها في الجريدة الرسمية ، لترشيد الإنفاق العام لمواجهة الأزمة، بينها تأجيل تنفيذ أية مشروعات جديدة لم يتم البدء فيها ولها مكون دولاري واضح.بالمقابل فإن الحل الممكن لمصر يكمن، وفق قراءة علامة للوضع الاقتصادي لمصر، في بذل المزيد من الجهد حتى يتسنّى للدولة المصرية الحصول على العملة الصعبة، ليس بالتعويل على القروض الخارجية، ولكن على التصدير لمختلف القطاعات والسياحة وإيرادات قناة السويس.مقارنة بالوضع اللبناني فالواضح أن في مصر سلطة تسعى جاهدة لمعالجة المشكلة المالية والإقتصادية ولم تتوان عن إتخاذ القرارات اللازمة للمعالجة حتى ولو كانت مؤلمة على المدى القصير ،يقول علامة اما في لبنان، فالمشهد مختلف، فتصفية الحسابات السياسية تقف سدا منيعا امام اقرار المشاريع الاصلاحية التي اعدتها الحكومة، وما نصت عليه بنود المبادرة الفرنسية، وما يطلبه صندوق النقد الدولي من لبنان.