رغم الاتفاق على رفع سقف الدين الأميركي.. لماذا لا يزال العرب يخافون على احتياطاتهم بالدولار؟

2 يونيو 2023
رغم الاتفاق على رفع سقف الدين الأميركي.. لماذا لا يزال العرب يخافون على احتياطاتهم بالدولار؟


ذكرت “دوتشه فيله” أن العالم العربي يُعد من أكثر مناطق العالم ارتباطا بالدولار الأميركي. فعملات معظم دوله وعلى رأسها السعودية والإمارات ودول النفط الغنية الخليجية الأخرى والعراق ومصر مربوطة به. كما أن العملة الأميركية هي العملة الرئيسية للاحتياطات المالية العربية، لاسيما وأن الصادرات من النفط والغاز والمواد الأخرى تُباع بالدولار الأميركي.

 
ومن المعروف أيضا ان الدول العربية الخليجية والعراق تستثمر أكثر من 260 مليار دولار في السندات الأميركية التي لا يرتبط سعرها وعوائدها بصعود وهبوط الدولار فقط، بل أيضا بالسياسات المالية والنقدية في الولايات المتحدة.
 
مشاكل مزمنة مستمرة رغم رفع سقف الدين
 
من هنا كان قد ساد القلق والمخاوف أيضا في العالم العربي من احتمال عدم الاتفاق بين الرئيس جو بايدن والحزب الجمهوري المعارض على رفع سقف الدين الأميركي لتجنب الحكومة الأميركية الإفلاس الذي كان سيعني تراجع البورصات وارتفاع سعر الدولار وتكاليف الاقتراض به. ومما كان سيعنيه ذلك المزيد من الصعوبات في تأمينه لتمويل المستوردات الضرورية. ومع الإعلان عن الاتفاق على رفع السقف البالغ 31.4 مليار دولار حاليا بين الطرفين تراجعت المخاوف المذكورة وساد الارتياح في البورصات العربية وأسواق المال بعد موافقة الكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ عليه.
 
صحيح ان الاتفاق أتى بالارتياح في الأسواق العربية إسوة بالعالمية، غير أن ذلك سيكون مؤقتا نظرا لاستمرار ارتفاع التضخم والمديونية الحكومية في الولايات المتحدة. وقد أضحت الأخيرة بمثابة قنبلة مالية موقوتة كونها شكلت ما يزيد على 120 بالمائة من حجم الناتج المحلي الإجمالي المقدر بنحو 33 مليار دولار خلال العام الماضي 2022 حسب المؤسسة الألمانية للتجارة والاستثمار. ومع الاتفاق على رفع سقف الدين العام وترجيح تكرار رفعه لاحقا ستقدم الحكومة في واشنطن أيضا ليس على طباعة المزيد من الدولارات وشراء السلع بها من الأسواق الخارجية فقط، بل وعلى رفع أسعار الفائدة الأميركية بشكل يؤدي إلى استمرار تصدير جزء من التضخم الأميركي إلى الأسواق ومن ضمنها الأسواق العربية.
 
شح في الدولار ومزيد من ارتفاع الأسعارومن تبعات ذلك المزيد من ارتفاع الأسعار والمزيد من التراجع في سعر العملات العربية تجاه الدولار. وسيدفع ثمن ذلك فئات واسعة من أصحاب الدخل المحدود بحيث تتسع دائرة الفقر، لاسيما وأن اقتصاديات البلدان العربية عدا النفطية منها لا تتمتع بالقدرة على زيادة صادراتها لسد العجز المزمن في موازينها التجارية. وهو الأمر الذي يضطرها إلى مزيد من الاقتراض بالدولار من أجل تأمين مستلزمات استيراد السلع الأساسية المتزايدة وخدمة فوائد وأقساط الديون الخارجية التي يزداد تراكمها سنة بعد الأخرى. وقد  ارتفعت تكلفة هذا الاقتراض مؤخرا بسبب قيام الاحتياطي الفيدرالي برفع سعر الفائدة الرئيسي أكثر من مرة خلال العامين الماضيين لتصل إلى لتزيد على 5 بالمائة.ويزيد الطين بلة في هذا الإطار حقيقة أن أعدادا متزايدة من الدول العربية حتى التي لم تعاني من الحروب مثل مصر ولبنان وتونس تواجه شحا غير مسبوق في الدولار. وهو الأمر الذي يجعلها غير قادرة على وقف التدهور في قيمة عملاتها وتراجع مستوى المعيشة لسكانها بسبب فشلها في الحصول على الكميات الإضافية من الدولارات لسداد فواتير الواردات من السلع الأساسية كالأغذية والأدوية ومستلزماتها. ولا يعود ذلك إلى الارتفاع المستمر في الأسعار العالمية بنسب تراوحت بين 30 و50 بالمائة على ضوء تبعات كورونا والحرب في أوكرانيا وحسب، بل أيضا إلى زيادة الكميات المطلوب استيرادها من هذه السلع على ضوء الزيادات السكانية وضعف أداء قطاعات الزراعة والصناعات الغذائية الوطنية.
 
كما أن المزيد من سكان هذه الدول يتوجه إلى التخلص من مدخراته بالعملة الوطنية لشراء الدولار والعملات الصعبة الأخرى للحفاظ على قيمتها. وهو الأمر الذي يؤدي إلى المضاربة بسعر الدولار الذي يرتفع على حساب العملات العربية التي فقد الكثير منها خلال السنوات الخمس الماضية من قيمتها تجاهه أكثر مما فقدته على مدى ثلاثة عقود، والمقصود بذلك الفترة من أوائل تسعينات القرن الماضي وحتى أواخر العقد الماضي. 
 
خوف العرب على احتياطاتهم بالدولارتواجه الدول العربية غير النفطية في الوقت الحاضر صعوبات متزايدة في الحصول على الدولار من أجل تمويل مستورداتها الأساسية. وفي الدول النفطية ودول أخرى كثيرة في العالم تزداد المخاوف على احتياطاتها بالدولار على ضوء تزايد التوقعات بقرب أفول عصره. ويزيد من هذه المخاوف تقليص العديد من الدول كروسيا والصين واليابان والسعودية والكويت استثماراتها به  بسبب عدم اليقين من تبعات تراكم جبال الديون في الولايات المتحدة والخلافات السياسية الداخلية الأميركية حول مستقبل السياسات المالية والنقدية. وهناك خشية متزايدة أيضا من الاستخدام المتزايد للعملة الأميركية كسلاح أساسي في فرض العقوبات الاقتصادية الأميركية التي تشمل تجميد الاحتياطات المالية لتحقيق أهداف سياسية. ولا يقتصر الأمر هنا على دول تعتبرها الولايات المتحدة معادية لها مثل روسيا وإيران وفنزويلا وسوريا وكوبا، بل يشمل أيضا قطاعات وشركات وأشخاص من دول حليفة وغير حليفة كالصين ودول الاتحاد الأوروبي وتركيا والإمارات العربية المتحدة.
 
صعوبة التجارة الخارجية بالعملات العربيةعلى ضوء ذلك تعمل دول وعلى رأسها الصين وروسيا والهند وإيران على تشجيع التبادل التجاري البيني بالعملات الوطنية على صعيد عدة سلع على رأسها مصادر الطاقة. كما قامت بتخفيض استثماراتها في السندات الأميركية لصالح الذهب وعملات أخرى والتخطيط لمشاريع داخلية. 
 
مما لا شك فيه أن اعتماد العملات الوطنية في التبادل التجاري بشكل متزايد يخفف من الاعتماد على العملات الصعبة وعلى رأسها الدولار الذي يهمين على التجارة الدولية. غير أن الأمر ليس سهلا بالنسبة للدول العربية – باستثناء السعودية والإمارات إلى حد ما- بحكم الحجم المتواضع لاقتصاداتها مقارنة بالصين والهند وروسيا والبرازيل. ومما يعنيه ذلك أنها ستجد صعوبة كبيرة في تحقيق طلب على عملاتها من قبل شركائها التجاريين حتى في الصين والهند والبرازيل وغيرها. ونظرا لهذه الصعوبة فإنها تخاطر بالوقوع في فخ المديونية باليوان أو الروبية كما وقعت في فخ المديونية بالدولار. ومن هنا فإنه حري بها أن تعمل كل في وسعها لتنويع اقتصاداتها ومصادر دخلها المحلية من خلال إنتاج أغذيتها وأدويتها والبستها بهدف تقليص طلبها على الدولار والعملات الأجنبية الأخرى. وفيما عدا ذلك فإنها ستبقى رهينة المزيد من الاقتراض الخارجي، لاسيما وأن أسعار السلع الأساسية إلى ارتفاع من موسم لآخر.