منذ إطلاق المملكة العربية السعودية ناقلتها الوطنية قبل 78 عاماً، والتي كانت أولى طائراتها هدية من الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، مثّلت “الخطوط الجوية السعودية”، إلى حدٍّ كبير، وسيلة النقل الرئيسة للحجاج والمعتمرين إلى مكة المكرمة عبر مطار جدة، مع الالتزام بالقواعد الاجتماعية الصارمة للبلاد، لاسيما لناحية عدم تقديم المشروبات الكحولية على متن الرحلات، وارتداء النساء للملابس المحتشمة، وفصل مقاعدهم عن الرجال إن لم يكونوا من أسرة واحدة. كما أن بعض الطائرات تخصص ركناً للصلاة، مع شاشة تشير إلى اتجاه القبلة مع تغير اتجاه الطائرة.
ويتناقض ذلك بشكل حاد مع توجهات المنافسين الإقليميين، الذين أعادوا تعريف السفر الفاخر، من خلال إتاحة خدمات الاستحمام في الجو، والخادم الشخصي على متن الرحلات، وكذلك توفير مشارب لركاب درجتي الأعمال والأولى حيث يمكنهم الاستلقاء على أريكة واحتساء ما يرغبون. كما طوّرت “طيران الإمارات” و”الخطوط الجوية القطرية”، ومؤخراً “الخطوط الجوية التركية”، في مطاراتها الرئيسية محطات ضخمة، ما حوّلها من نقاط عبور للمسافرين بين آسيا وأوروبا وأفريقيا وأميركا الشمالية، إلى وجهات بحد ذاتها، مع توفيرها لإمكانية الوصول إلى الشواطئ ومدن الملاهي ومراكز التسوق الراقية والفنادق الفخمة، بمجرد عبور بوابة المطار.
الوافد الجديد
كي تثبت حضورها في هذا الميدان، أطلقت السعودية ناقلة وطنية إضافية، هي “طيران الرياض”، لمواكبة مستهدفها بمضاعفة عدد زوار المملكة ثلاث مرات، وجذب رجال الأعمال والسياح من المنافسين. وتتطلع شركة الطيران الجديدة لمباشرة رحلاتها عام 2025، بطائرات مغطاة باللونين الأزرق والخزامي، دون إعلانها عن تفاصيل خطتها العملية. ورفضت الشركة الإفصاح عمّا إذا كانت ستتيح المشروبات الكحولية على متن رحلاتها، منوّهةً فحسب بأنها ستعمل وفق القانون السعودي. بينما ستواصل “الخطوط الجوية العربية السعودية” التركيز على المسافرين القادمين للحج والعمرة.تخطط “طيران الرياض” لوصول رحلاتها إلى 100 وجهة بحلول 2030، انطلاقاً من مطار الملك سلمان الدولي، المرفق الجديد العملاق قرب العاصمة الرياض، والمصمم لاستقبال 120 مليون مسافر سنوياً بنهاية العقد، أي ما يفوق بنحو 30% القدرة الاستيعابية الحالية لمطار دبي. والهدف من ذلك، هو جذب المسافرين وتشجيعهم على البقاء لحضور اجتماعات عمل، أو القيام برحلات قصيرة إلى المعالم الأثرية والجبال والشواطئ على امتداد المملكة.
“طيران الرياض” طلبت بالفعل 39 طائرة “بوينغ” من طراز “787 دريملاينر”، مع خيارات شراء لعشرات الطائرات الأخُرى، وهي تجوب السوق بحثاً عمّا يناهز 400 طائرة ضيقة الهيكل. ويتوقع مراقبون أن تكشف الشركة الوليدة عن صفقة ضخمة إضافية خلال معرض باريس للطيران (19-25 حزيران)، حيث تخطط لإقامة حفل في فندق الخمس نجوم المملوك للسعودية “دي كريون” المطلّ على ساحة كونكورد في باريس.توني دوغلاس، الرئيس التنفيذي لشركة “طيران الرياض”، والخبير في القطاع، والذي كان يدير حتى وقتٍ قريب شركة “طيران الاتحاد” المنافسة، يؤكد على أن “تزايد عدد سكان المملكة، يتطلّب وجود ناقلة عالمية من الطراز الأول. وبالنظر لمساحة المملكة المترامية الأطراف جغرافياً، فإن وجود أكثر من ناقلة وطنية أمر ضروري”.ديناميكية القطاع
تندرج هذه التطورات التي يشهدها قطاع الطيران في المملكة في إطار الرؤية الأوسع لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الهادفة لتنويع الاقتصاد بعيداً عن الاعتماد على النفط، ومن ضمنها الاستثمار بقطاعات الرياضة والترفيه والسياحة. إلاّ أن إقناع الوفود السياحية بزيارة مكان يتسم بالحر، ولا يُسمَح بتقديم المشروبات الروحية فيه، هو أمر صعب الترويج له، بغض النظر عن درجة فخامة الطائرات التي ستقلّهم.جون ستريكلاند، المحلل بشركة “جيه إل إس كونسلتنغ” (JLS Consulting)، ومقرّها لندن، يقول: “لا شك بامتلاك السعودية الوسائل والموارد اللازمة لبناء صناعة سياحية متميزة، لكن ذلك لا يعني أن الأمر سيكون سهلاً”. مضيفاً: “ستواجه شركة طيران الرياض كلّاً من الخطوط القطرية وطيران الإمارات اللتين أمضتا سنوات طويلة في بناء نماذج أعمالهما”.مع تحوُّل التركيز إلى المسافرين القادمين بغرض الترفيه، بموازاة زوّار الأماكن المقدسة، يخطط السعوديون لإضافة ناقلة منخفضة التكلفة تطير من الدمام، مركز صناعة النفط في البلاد، وشركة طيران جديدة كاملة الخدمات مقرّها “نيوم”، المدينة المستقبلية قيد الإنشاء على ساحل البحر الأحمر. ويشير محمد الخريسي، نائب الرئيس للاستراتيجية بالهيئة العامة للطيران المدني، إلى أن الدفع قُدُماً بقطاع الطيران “يدعم بشكل مباشر الصناعات الأساسية لأجندة رؤية المملكة 2030، بما في ذلك السياحة”.الأموال وحدها لا تكفي
تواصل شركتا “طيران الإمارات” و”الخطوط الجوية التركية” تزويد أسطولهما بطائرات عريضة البدن للمرحلة القادمة من النمو، وهو ما يزيد من حدّة المنافسة الشديدة أصلاً في سوق الطيران. وستواجه “طيران الرياض” صعوبة بالحصول على مساحات زمنية للإقلاع والهبوط في المطارات الكبيرة خارج السعودية. بينما تُسيِّر “طيران الإمارات” 6 رحلات يومياً على متن طائرات “إيرباص A380” العملاقة من دبي إلى مطار هيثرو في لندن، حيث المساحات الزمنية المتاحة نادرة. ومنذ فترة طويلة، أثبتت دبي نفسها كوجهة فاخرة للمسافرين الذين يحبون الاحتفالات، حيث يوجد أطول برج في العالم، ومرافق الترفيه، فضلاً عن النوادي الليلية، والسماح بالمشروبات الكحولية، وقيوداً أقل على النساء.توفُّر الأموال الطائلة لا يعني بالضرورة تحقيق النجاح، بحسب تجربة “طيران الاتحاد”، حيث عمل توني دوغلاس في السابق. فقبل بضعة أعوام، أنفقت الناقلة الإماراتية، ومقرّها العاصمة أبوظبي، الكثير من الأموال على توسيع أسطولها، وتقديم الخدمات المتميزة على متن رحلاتها، مثل الأجنحة متعددة الغرف التي أطلقت عليها تسمية “الإقامة” على متن طائراتها من طراز “إيرباص A380”. وفي الوقت عينه، استحوذت على حصص كبيرة بناقلات متعثرة في 6 دول، بما في ذلك ألمانيا والهند وإيطاليا، لتوجيه المزيد من حركة الركاب إلى محطتها الرئيسية في أبوظبي. وبعد انهيار هذه الاستراتيجية وتراكم الخسائر الناجمة عنها، أتت الشركة بدوغلاس لضبط الأمور، والذي يشير إلى أن تجربته خلال الفترة التي قضاها في “الاتحاد”، ستساعده على توجيه استراتيجيته في “طيران الرياض”، والتي يهدف من خلالها إلى التركيز على خدمة العملاء داخل المملكة، ومن خارجها على حد سواء.ويقول دوغلاس: “نتعلم دائماً دروساً مهمة من كل تجربة.. نحن نهدف إلى جذب الزوار إلى السعودية، وكذلك خدمة العدد الهائل من المواطنين والمقيمين في المملكة”. (الشرق)