لم تكن قد مضت ساعات على اندلاع الحرب على غزة في السابع من تشرين الأول الماضي، حتى بدأت التحذيرات من ارتفاع أسعار النفط، لاسيّما وأنّ الصراع يتمركز في بقعة جغرافية من بين الأهم في العالم، من حيث إنتاج النفط والغاز، الأمر الذي يجعل التطورات الجيوسياسيّة فيها تنسحب على الاقتصاد العالمي. وكالة “بلومبيرغ” كانت قد رسمت، في بداية الحرب، ثلاثة سيناريوهات للاقتصاد العالمي، تمحورت جميعُها حول ارتفاع أسعار النفط، وامكان وصوله إلى 150 دولار للبرميل الواحد في حال طالت الحرب دولًا إقليميّة. كذلك فعل البنك الدولي محذّرًا من ارتفاع كبير في أسعار النفط. لكن خلافًا للتوقعات امتصت الأسعار التبعات السلبيّة، لا بل سجلّت انخفاضًا إضافيًّا، وبعد أربعة أسابيع على اندلاع الحرب تم بيع خام برنت، وهو معيار النفط الدولي، بسعر أرخص مما كان عليه عندما بدأت الحرب.
Advertisement
ما هي أسباب المستويات المنخفضة لأسعار النفط مقارنة بالتقديرات بعد السابع من تشرين الاول؟ وهل يمكن للأسواق أن تواصل المحافظة على مناعتها في حال اتسع نطاق الحرب؟ ام سنشهد ارتفاعات كبيرة بالأسعار ربطًا بالتطورات الميدانيّة؟
السعر انخفض عمّا كان عليه قبل الحربقبل عملية طوفان الاقصى بلغ سعر برميل النفط الخام الأميركي حوالى 83 دولارًا، وفق ما لفت الخبير في الإقتصاد والأسواق الماليّة الدكتور عماد عكوش في حديث لـ “لبنان 24”. عند حدوث العمليّة قفز السعر إلى حدود 90 دولارًا، بعد ذلك سجّل تراجعًا رغم التوترات، التي توسّعت مع دخول أطراف متعددة في المعركة وإن بأشكالٍ مختلفة، ووصل السعر إلى حوالي 76 دولارًا للبرميل، أي بتراجع بلغت نسبته 8.44 بالمئة قياسًا بالسعر قبل بدء العملية، في حين سجّل خام برنت خسائر شهريّة بنسبة 8.3 بالمئة.
انحسار المخاوف من تمدّد الحرب ساهم في تراجع الأسعارأسباب كثيرة سياسيّة واقتصاديّة أدّت إلى طمأنة الأسواق، وفق عكوش “في الشق السياسي، تراجعت المخاوف المتعلّقة بتوسع الصراع، بعدما أكّدت معظم الاطراف المرتبطة به بأنّها غير معنيّة بتوسيعه، الأمر الذي انعكس إيجابًا على الأسواق. بالتوازي برز تحرّك الولايات المتحدة نحو تخفيف العقوبات عن القطاع النفطي لفنزويلا، والسماح لها بتصدير أصناف معينة ولدول معينة، مما يسمح بدخول أكثر من 500 ألف برميل يومي إلى السوق”.
رقم قياسي في المخزون الأميركيأمّا العوامل الإقتصاديّة التي تضافرت، وأدت إلى لجم ارتفاع أسعار النفط وتراجعها، فهي عديدة، أبرزها وفرة المخزون الأميركي وارتفاع معدلات الإنتاج “بحيث ارتفع مخزون النفط الخام بمقدار 774 ألف برميل إلى 421.9 مليون برميل، قبل أسبوعين، وفقا لمصادر في السوق ونقلًا عن أرقام معهد البترول الأميركي. كما توقّع تقرير شهري لإدارة معلومات الطاقة الأميركية، أن يرتفع إنتاج النفط الخام من 850 ألف برميل يوميًّا إلى 12.76 مليون برميل في 2023. وأظهرت بيانات الإدارة الصادرة هذا الشهر، توقّعًا بارتفاع إنتاج النفط الخام من 330 ألف برميل يوميًّا إلى 13.09 مليون عام 2024. بالتوزاي تحدثت الإدارة نفسها عن تراجع في الإستهلاك، وسط توقعات بانخفاض إجمالي استهلاك النفط في الولايات المتحدة 300 ألف برميل يوميًّا هذا العام” بحسب عكوش.
دور الركود الاقتصادي العالميأسباب أخرى ساهمت في تراجع الأسعار وفق عكوش، منها تغاضي الولايات المتحدة عن ارتفاع الإنتاج الإيراني من النفط، بعد رفض المملكة العربية السعودية طلبَ الولايات المتحدة بوقف الخفض الطوعي للانتاج، والبالغ مليون برميل يوميًا، وجرى تمديده حتى نهاية العام الحالي لتهدئة السوق. على صعيد آخر أتى الركود في الإقتصاد العالمي لصالح انخفاض أسعار النفط، بظل استمرار نسب التضخم عند أعلى مستوياتها “لا سيّما في بريطانيا 6.7 بالمئة، أستراليا 5.4 بالمئة، ألمانيا 4.5 بالمئة، مما ينعكس على حجم الاستهلاك العالمي وبالتالي الطلب على النفط” . يضاف إلى ذلك، تراجع معدلات النمو في العديد من الدول الصناعية “في ألمانيا 0.3 بالمئة عن الفصل الثالث لعام 2023، في إيطاليا صفر بالمئة عن الفصل الثالث، في أوروبا ككل 0.1 بالمئة عن الفصل الثالث. كما أنّ استمرار معدلات الفوائد للمصارف المركزيّة في سياقها التصاعدي ينعكس على حجم الاستهلاك والاستثمار” .
دور الإقتصاد الصيني في تراجع أسعار النفطتلعب الصين دورًا غير مباشر في اتجاهات أسعار النفط، كونها ثاني أكبر مستهلك للنفط في العالم. ورغم أنّ الاقتصاد الصيني في طور النمو، ولكنّه لا زال أقل من أن يدعم أسعار النفط “ومؤشراته غير مبشّرة، منها التراجع في معدلات النمو وحجم التصدير للخارج، ومعدّلات التضخم. كما تفاقمت الضغوط الانكماشية في الصين في تشرين الأول مع تراجع أسعار المستهلكين إلى ما دون الصفر، وتفاقم انخفاض تكاليف الإنتاج، ما زاد التوقعات بحاجة الاقتصاد الصيني إلى مزيد من التحفيز لدعم النمو. كما انخفضت أسعار المستهلك بنسبة 0.2 في المئة الشهر الماضي، بعد أن كانت تحوم بالقرب من الصفر في الشهرين السابقين وفقاً لبيانات المكتب الوطني للإحصاء، وهو أقل من متوسط التوقعات في استطلاع «بلومبرغ» للاقتصاديين. وانخفضت أسعار المنتجين للشهر الثالث عشر على التوالي، متراجعة 2.6 في المئة على أساس سنوي، مقابل توقعات الاقتصاديين بانخفاض 2.7 في المائة وبعد انكماش 2.5 في المائة في أيلول، بحسب ما ذكرت صحيفة “فايننشيال تايمز”.
الطاقة البديلة تخفض الطلب واستثماراتها المستقبليّة تنافس النفطيلفت عكوش إلى ارتفاع حجم الاستثمار في الطاقة البديلة “حيث ستتجاوز الاستثمارات العالميّة في الطاقة الشمسيّة في العام الحالي، للمرة الأولى، المبالغ المستثمرة في استخراج النفط، كما ذكرت وكالة الطاقة الدولية، والتي أشارت إلى أنّ نحو 380 مليار دولار، أي أكثر من مليار دولار يوميا، ستذهب هذا العام إلى الطاقة الشمسية”.
عكوش يتوقع استمرار مفاعيل هذه العوامل ولا سيما ما يتعلق منها بالطاقة البديلة “والتي من المفترض ان تساهم في خفض الاعتماد على الوقود الاحفوري، وبالتالي خفض الطلب على برميل النفط ، لكن بالتأكيد الانعكاس الأكبر سيكون لأسباب سياسيّة، خاصة ما يتعلق بالعقوبات المفروضة على أكبر المنتجين، خصوصًا روسيا وفنزويلا وإيران” معتبرًا أنّ استمرار هذه العقوبات قد يكون دافعا باتجاه أعادة ارتفاع الأسعار، خاصة إذا تمّ تشديد العقوبات على روسيا الاتحادية.
عدم ارتفاع أسعار النفط بفعل الحرب على غزة، لا يعني بالضرورة أنّ الأسعار ستحافظ على مناعتها، إذ أنّ تصاعد التوترات الجيوسياسية سيعزز من المخاوف لجهة فرص تحقيق قفزات أعلى في أسعار النفط، خصوصًا إذا ما تمدّد نطاق الحرب بشكل أكبر إلى الإقليم، ودخلت إيران مداره.