البستاني ينبُش “قبر الدعم”: أين ذهب 11 مليار دولار من أموال المودعين؟

24 يونيو 2025
البستاني ينبُش “قبر الدعم”: أين ذهب 11 مليار دولار من أموال المودعين؟

عماد الشدياق نقلاً عن نداء الوطن:

في بلدٍ امتهن طمس الحقائق وتجاهل القوانين، عاد إلى الواجهة فجأة قانونٌ منسيّ منذ صيف العام 2021. القانون يحمل الرقم 240، وينصّ على إخضاع كل المستفيدين من الدعم الحكومي بالدولار الأميركي للتدقيق الجنائي الخارجي.

هذا القانون الذي مضى على صدوره ما يقارب الأربع سنوات، لم يُنفّذ. ولم تُعدّ مراسيمه التطبيقية ضمن المهلة المحددة في مادته الرابعة، برغم أنّه نُشر في الجريدة الرسمية.

اللافت أنّ إعادة تحريك الملف لم تأتِ من الحكومة، ولا من أجهزة الرقابة، بل من رئيس لجنة الاقتصاد والتجارة النيابية النائب فريد البستاني، الذي وجّه قبل أيام سؤالًا خطيًا إلى الحكومة عبر رئاسة مجلس النواب، مستفسرًا عن أسباب التأخير في تنفيذ القانون. البستاني أشار في سؤاله إلى أنّ وزارتي المال والعدل لم تقوما خلال مهلة الشهرين بإعداد الآليات المطلوبة، ما جعل القانون غير نافذ فعليًا.

تحرُّك النائب البستاني لمكافحة الفساد أو “تقويم الانحراف” في أداء السلطة، ليس الأول من نوعه. فقد تقدم البستاني قبل أسابيع باقتراح قانون لحماية الودائع بالعملات الأجنبية، وذلك بعد محاولات سابقة خلال عهد حكومة تصريف الأعمال (حكومة الرئيس نجيب ميقاتي)، لكنّه لم يسلك طريقه. كما كان للبستاني الفضل في إعادة العمل بإدارة “النافعة” بالتعاون مع وزارة الداخلية التي اتخذت إجراءات عقابية بحق الفاسدين، ودفعت نحو يُسرّع وتيرة العمل في هذا المرفق الحيوي. وكذلك كشف الاختلاسات في وزارة الاقتصاد، التي أوصلت إلى توقيف الوزير أمين سلام وشقيقه بواسطة القضاء.

قد لا يكون تحرّك البستاني منفرداً كافيًا لتغيير واقع راسخ من الإهمال السياسي والقضائي كلياً، لكنّه يفتح نافذة جديدة للضوء ويحض نظرائه في الندوة البرلمانية على التعاون معه للكشف اليوم عن واحد من أكثر الملفات التباسًا خلال الأزمة المالية: ملف “الدعم”، الذي كلّف مصرف لبنان نحو 11 مليار دولار، وشكّل مصدرًا ضخمًا للهدر والتهريب، لا يزال حتى اليوم من دون مساءلة، رغم كل ما كُتب وقيل عنه.

بحسب معلومات خاصة بـ “نداء الوطن” فإنّ حاكم مصرف لبنان السابق وسيم منصوري قد سبق وأرسل في حينه كل ملفات الدعم إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء في حكومة نجيب ميقاتي على USB. هذه الملفات تتضمّن معلومات كاملة عن الشركات والأفراد الذين حصلوا على الدعم، وتصل إلى أكثر من 10500 ملف تعود لشركات عاملة في السوق اللبنانية.

ومع ذلك، تؤكّد المعلومات أنّ وزيري المال والعدل، يوسف خليل وهنري خوري، لم يُقدما على أي إجراء بعد تسلّم الملفات. لم يُفتح تحقيق، ولم تُحال الملفات إلى الجهات القضائية، إلى أن انقضت المهل القانونية وسقطت بفعل مرور الزمن بعد الشهرين، لينتهي بذلك مفعول القانون رقم 240 كأداة محتملة للمحاسبة.

المفارقة أنّ النظام السياسي نفسه، الذي وضع القانون شكليًا في 2021 لاحتواء النقمة الشعبية آنذاك، هو نفسه الذي تجنّب تنفيذه لاحقًا، ربما لأنّ نتائجه كانت ستكشف شبكات واسعة من المصالح المرتبطة بالسلطة والنفوذ والمال. فدعم السلع الذي بدأ كشعار لـ”حماية الناس”، تحوّل إلى مصدر فاضح للربح والتهريب، سواء عبر الحدود أو عبر الفوارق في سعر الصرف. أحد المصرفيين المقرّبين من هذا الملف صرّح صراحةً: “نحن مجرمون. كنا نبيع بالدولار على سعر 3000 و5000 ليرة، بينما كان سعر السوق قد تجاوز 100 ألف”.

من المستفيد؟ من الفاعل؟ من المتستّر؟ من عرقل القانون؟ كل هذه الأسئلة لا تزال بلا أجوبة. وقد يكون تحرّك البستاني مجرّد محاولة أخيرة لتسجيل موقف رقابي، أو لفتح نقاش نيابي حول الملف، لكنّه في كل الأحوال يعيد طرح السؤال الأساسي: هل هناك إرادة سياسية فعلية لمساءلة من استفاد من مليارات الدولارات المدعومة من أموال المودعين؟

لا يبدو ذلك حتى الآن. فالمؤشرات السياسية والقضائية لا توحي بوجود أي نيّة جدّية لاستعادة الأموال أو نشر أسماء المستفيدين أو حتى إصدار تقرير رسمي يشرح للرأي العام كيف صُرفت المليارات ومن هم أصحابها. بل إن التعامل مع الملف لا يزال يجري بمنطق الإنكار، كأنّ الدعم كان ضرورة وطنية انتهت، لا فضيحة مكتملة العناصر بحاجة إلى محاكمة.

التحرّك النيابي الأخير، رغم تأخّره، يسلّط الضوء مجددًا على هذا الفراغ في المساءلة. والأهم من تحرّك نائب أو لجنة، هو ما إذا كان هذا التحرك سيفتح بابًا لمساءلة حكومية علنية، أم أنّه سيلقى المصير نفسه الذي لاقاه القانون: التجاهل، فالتأجيل، فالسقوط بفعل الزمن.

الملف لم يُغلق أخلاقيًا، حتى لو أُغلق قانونيًا. وهناك أكثر من 11 مليار سبب يدعو اللبنانيين إلى عدم نسيانه… خوصاً أن تلك المليارات هي من أموال المودعين.