“كل ما عينيّا تقع عليه وهو قدامي في البيت، بلاقي نفسي بفكر وبسأل نفسي: يا ترى هيبقى معايا بُكره؟ هيفضل معايا أنا والولاد ولا هيشوف لنفسه بيت تاني؟ هيفضل الراجل بتاعي، حبيبي اللي اتجوزته باختياري من سنين، ولا هييجي عليا وقت أسلِّم إنه بقى مع ست تانية غيري؟ الشك بيقطع فيّا من جوايا، مقدرش أتكلم وأنا معيش دليل، ومبسعاش عشان أوصل للدليل، خايفة أوي من اللحظة اللي ممكن أتأكد فيها إن فيه ست تانية في حياته، مش عايزه أتأكد، مع إن كل حاجة قلبي بيشوفها بتقولي الحقيقة: سكوته، الموبايل اللي مبيتسابش من إيده، نظرته ليا اللي بتعديني كأني لوح إزاز، مبقاش شايفني أساساً، حتى الخناق انعدم من كُتر ما بقى ممل.. كل حاجة بتقولي الحقيقة بس أنا عندي أمل أطلع موهومة مش أكتر، بحلم باليوم اللي كل حاجة ترجع فيه كويسة، نرجع اتنين متجوزين زي أي جواز طبيعي، مش اتنين عايشين مع بعض في بيت واحد بينهم حسابات الولاد والأقساط والأهل والشكل الاجتماعي.. بحلم باللحظة اللي نرجع فيها راجل وست بيتقفل عليهم أوضة واحدة آخر كل يوم، مش كل واحد فينا نايم في أوضة لوحده كأنه قاعد في لوكاندة..”.
جاءني صوتها مختنقاً في التسجيلات التي أرسلتها لي متوالية عبر تطبيق “ماسنجر” على حسابي الشخصي على فيسبوك.. لا تبحث عن حل، لكنها تريد بعض الفضفضة الآمنة لا أكثر.. هكذا بدأتْ حديثها حاسمة الأمر، حتى أنها أكدتْ أكثر من مرة في التسجيل الأول أنها لن تغضب لو لم أرد على الإطلاق.. أعرف هذه المرحلة جيداً، عندما يحتشد الألم في جسد صاحبه، يخنقه عند الحلقوم وبين الضلوع، البوح! فقط البوح لغريب لا يعرفه، هذا كل ما يريد لحظتها.
حكاية عادية لأسرة من الطبقة المتوسطة في شريحتها العُليا، أب وأم رزقهما الله من الذكور اثنين، وابنة صغيرة هي فاكهة حياتهما وحُلوها.. الأب والأم يعملان، والأب والأم توقفا عن أن يكونا زوجين، وانحصرا في مساحة الأب والأم، يذهب كل منهما لعمله، ويعودان لاستكمال دوريهما في رعاية الأبناء، وأداء التزامات الأسرة المالية والاجتماعية أمام الناس، حياة مشتركة بلا حياة، حياة وظيفية تماماً، لها إيقاع النهر الراكد، الذي يفقد بركوده مسمى “النهر” ويتحول لبقعة ماء آسن.
قلنا إنها حكاية عادية، والمصيبة تكمن في تفصيلة الاعتياد هذه بالتحديد!
مرَّت عدة أيام منذ وصلتني رسائلها، والسؤال يتشكل أمامي ويُلح عليَّ: كيف وصلنا إلى هنا؟
(2)
لا يمكنني إحصاؤهم من ذاكرتي بدِقَّة، لكني على الأقل أعرف خمس أسر في دوائري القريبة تحيا تحت وطأة نفس النمط، حيث الانفصال غير المُعلن هو حقيقة الأمر، وكل ما يربط الزوجين هو مصالح الأسرة، وحسابات الشكل الاجتماعي أمام الأهل والأصدقاء، حيث تنتهي الزيجة فعلياً على أرض الواقع، دون الذهاب للمأذون وتوقيع قسيمة الطلاق، والدوافع تختلف أحياناً وتتشابه في أحيان أخرى، فأحياناً هو الخوف من اهتزاز الصورة الاجتماعية لكلا الطرفين، وفي أحيان أخرى، وهو السبب الأكثر شيوعاً، يأتي إحجام الرجل عن خطوة الطلاق هروباً من الالتزامات المادية التي سيتحملها كتبعية لحدوثه.
لكن بعيداً عن الحسابات المادية والمظهرية، لم تكن سيدتنا الكريمة التي راسلتني هي الأولى التي أسمع منها كلاماً مشابهاً، الحالة ذاتها منتشرة، حالة السيدة التي تعلم أن مشروع زواجها تقريباً انتهى، لكنها ترفض بكل الأشكال أن ينتهي بشكل رسمي، بالرغم من الثقل الذي تعانيه وهي لا تعرف هل هي متزوجة أم لا، لكنها في الغالب تفضل وضع “المُعلَّقة” هذا؛ على أمل أن ينصلح الحال، بشكل ما، في لحظة ما، وتعود علاقتها بزوجها لما كانتْ عليه في البداية.
لم أملك إجابة شافية، فاستشرت واحداً من المتخصيين، وهو الدكتور “محمد محمود حمودة”، استشاري الطب النفسي، وجاء تفسيره فاتحاً لي باباً جديداً لم أكن أعلم عنه شيئاً، حيث أوضح لي أن النساء عادةً ما يمثلن دور الطرف المتمسك في مثل هذه العلاقات، الطرف الذي يتحمل الألم لكنه يرفض إنهاء العلاقة، وأن الأمر له علاقة بهرمون “الأوكسيتوسين”، الذي يُفرز من منطقة “المهاد” بالمخ، وأُطلق عليه اصطلاحاً: “هرمون السعادة”، حيث يفرزه الجسم في حالة قُرب الإنسان من شريك حياته، مما يمنحه إحساساً بالراحة والاطمئنان والسكينة، وأن الأمور بخير.. وبمجرد التفكير في احتمالية هجر هذا الشريك، واختفائه من المشهد بالفعل، يبدأ الجسم في التوقُّف عن إفراز الهرمون، ويبدأ إحساس الضيق والأفكار الكئيبة تحاصر صاحب المشكلة، الذي يلجأ للتمسك بوجود الطرف الآخر في العلاقة، حتى ضمن هذا الإطار المُشوَّه من العلاقات الزوجية، لأن وجود الشريك يمنح الإنسان إحساساً بالاستقرار، خصوصاً الطرف الأنثوي في العلاقة، حيث يزداد إفراز هذا الهرمون عند النساء عن الرجال.
إذاً تفسير الأمر قد يخضع للعبة خداعية يمارسها الجسد على صاحبه، ليمده بإحساس الراحة الزائف.. لكن د. محمد عاد ليؤكد لي أن هذه اللعبة لا تستمر طويلاً في مفعولها، فسُرعان ما يغلب الضيق على الطرف المتمسك باستمرار العلاقة، والذي عادة ما تكون الزوجة، خصوصاً عندما تطول مدة الانفصال بينهما، ويبدأ شكها في دخول زوجها في علاقة عاطفية جديدة، وهو الشك الذي يتحول لواقع في كثير من حالات الخيانات الزوجية، أو حالات “الزواج الثاني” أيضاً.. عندها يتوقف تخدير هرمون السعادة، ولا يتبقى سوى المرارة والألم، والتي قد تمهد الطريق للإصابة بالاكتئاب مستقبلاً.
كان ذهني يهدر وأنا أستمع له، وتذكرتُ السبب الرئيسي الذي يقوله الرجال والنساء المستمرون في مثل هذا النمط من الزيجات: الأبناء.
وماذا عن الأبناء؟
(3)
هل استمرار الزواج بهذا الشكل الصوري يكون هو الأفضل بالنسبة للأبناء من الناحية النفسية، أم حدوث الطلاق بشكل طبيعي وحاسم؟
جاءتْ إجابة الدكتور “محمد” تؤكد وقوع تأثير سلبي في كلتا الحالتين على الأبناء، لكنه يتعاظم في حال استمرار الزواج بهذا الشكل المنقوص، أمّا عند حدوث الطلاق فيمكن استيعاب الأبناء نفسياً، خصوصاً في حال وجود مساحة من التعاون المتفاهم بين الأب والأم من أجل صالح الأبناء.
الآثار النفسية السلبية الواقعة على الأبناء في حالة استمرار الزواج بصورته فقط تتمثل في حالة التحفُّز الدائم التي يعيش فيها الأبناء في وضع غير مفهوم بالنسبة لهم، حيث “الأدرينالين” عادةً ما يكون في أجسادهم في أعلى مستوياته مع الجو المتوتر السائد في الأسرة، خصوصاً في حال وقوع مشادات وخلافات متكررة بين الأب والأم، واستمرار حالة الانفصال المُقنَّع هذه لفترة طويلة، يزرع في العقل الباطن للأبناء فكرة مُشوَّهة عن الزواج كمشروع من الأساس، فهل هو مشاركة في كل شيء، كما يُفترَض أن يكون، أم هو شراكة مصالح فقط تطفو على سطح من الصراع الدائم؟
عادةً ما تظهر الآثار السلبية على الأبناء بعد سنين، عندما يبدأ كل منهم في الخوض في غمار علاقة عاطفية، حيث يكتشف في نَفْسه أن فكرته عن الارتباط العاطفيَّ يشوبها الكثير من التشوُّه، مما قد يجعل الأمر متطلباً -في المستقبل- استشارة متخصص يساعده على إصلاح ما أفسدته سنين التنشأة.
(4)
متى يبدأ كل هذا عادةً؟
باغتني السؤال قُرب نهاية حديثي مع الطبيب المحترم، الذي أتاح لي جزءاً من وقته، في زمن شيوع فزع السيد COVID 19..
في الأغلب، يمكننا تقسيم مراحل الانفصال النفسي بين الأزواج إلى ثلاث مراحل رئيسية:
(1) النذير الأول
أزمة معظمنا أننا نظن أن النقاط الحاسمة في علاقاتنا الإنسانية لا بد أن تكون ملحمية للغاية، غير مدركين أن العكس هو ما يجري في معظم الأوقات، النار تبدأ من مُستصغر الشرر، والألم يبدأ في التراكم من جرح صغير، يتمثل في موقف عابر، لمحة تخلي عابرة، أو حتى خذلان وجدت أنه لا يستحق أن تعتذر عنه بعد أن تناقشه، من هنا يبدأ كل شيء، من هنا تبدأ القُرحة في التكوُّن، انتظاراً للمرحلة التالية.
(2) التجاهل القاتل
يحدث الجُرح الأول، فنتجنب الحديث عنه، مرتكبين الخطيئة الأسوأ فتكاً بالتفاهم بين كل شريكين: الصمت عندما يجب الكلام.
يتراكم الإحساس بالألم لدى أحد الطرفين، وربما كلاهما، كل واحد لديه وجهة نظر، وكل طرف يرى نفسه المتألم، دون مصارحة، وعندها قد تجد الطرفين يتحدثان في كل شيء مشترك بينهما، ويتشاجران لأتفه الأسباب، ويتجنبان الحديث عن أساس المشكلة!
الجرح البسيط أصبح خُراجاً بشعاً، ومعه تغلي النفوس في وتيرة متصاعدة، حتى تأتي اللحظة الأسوأ..
(3) الانفجار
بتراكم الصديد يزداد الألم، وبالألم يأتي الانفجار، فيُخرج الطرفان أسوأ ما فيهما تجاه بعضهما البعض، يقولان ما يقصدان وما لا يقصدان، يجرح كل منهما الآخر بقدر ما يستطيع، يؤلمه بقدر إحساسه بالكبت والظلم.
غالباً ما يصعب الإصلاح أثناء هذه المرحلة أو بعدها؛ فالألم المتبادل الذي يحدثه الطرفان في بعضهما البعض قد يستحيل تجاوزه.. الحل في كسر الدائرة اللعينة قبلها، ليواجه، ويعاتب، ويعتذر، ويتحمل، ويبذل من طاقته، ويصلح ما أفسدته سنون من ممارسة سياسة مواراة التراب أسفل السجادة.. قبل أن تأتي لحظة الانفجار.