تُعاني مدينة طرابلس من أزمة مياه منذ سنوات، لا سيما في بعض المناطق الشعبية كباب التبانة التي كانت تحتاج إلى تأهيل وتطوير شبكة مياه الشفة لمنع التلوث، وغيرها من المناطق التي تختلط فيها مياه الصرف الصحي بمياه الآبار، الأمر الذي كان يُؤثر على جودة المياه ولونها ودفع الكثير من المواطنين إلى اللجوء لخزانات المياه الجاهزة، لكن هذا الخيار كان قابلًا للتنفيذ قبل الأزمة المعيشية التي يُواجهها الطرابلسيون في الفترة الأخيرة.
ولا تقتصر معاناة الطرابلسيين مع المياه على مسألة التلوّث فحسب، بل تضاف اليها أزمة انقطاع هذه الثروة الكبيرة، خاصّة مع غياب التيار الكهربائي وصعوبة الاشتراك في المولّدات التي تجاوزت فاتورتها حدودها المنطقية والمعقولة في المدينة، ما يلفت إلى وجود أزمة واضحة في هذا القطاع الذي لم يجد حلّاً مناسباً لمشكلاته وتداعياتها على المواطن “الطفران”.
وضجت منصات التواصل الاجتماعي كما المواقع الاخبارية بخبر انتشار مرض التهاب الكبد الفيروسي أو ما يُعرف بـ”اليرقان” أو “الريقان”، داخل بعض المناطق الطرابلسية، أبرزها ضهر المغر في منطقة القبّة التي تُعاني أساساً من الفقر المدقع، ولم يكن ينقصها إلّا هذا المرض كيّ تكتمل معاناتها اليومية، فضلًا عن انتشاره في مناطق أخرى. وفي المعطيات “فقد انتشر هذا المرض في القبة، التبانة، البداوي، وحتّى بعض مناطق عكار، في وقتٍ تُحذّر فيه بعض الهيئات أهالي الضنية من المأكولات والمشروبات التي تكون قد (تشرّبت) تلوثاً كبيراً لم تُدرك القوى الرسمية والصحية مصدره الرئيس حتّى اللحظة”.
وبعد انتشار هذا الخبر، قامت مؤسّسة مياه لبنان الشماليّ يوم الأحد الفائت بالكشف على المنطقة مع أخذ عيّنات من المياه، “وتبيّن نتيجة الفحص بأنّ مياه المؤسّسة خالية من أيّ ملوثات جرثومية، كما أنّها نظيفة وصالحة للشّرب والاستعمال المنزلي” كما ورد في بيانها، لكن معظم المواطنين الذين يقطنون هذه المناطق والأحياء السكنية العشوائية، لم يُصدّقوا مضمون هذا البيان الذي اعتبروه “ناقصاً وغير صحيح”، لأنّ المياه الملوّثة هي ما أدّت إلى انتشار هذا المرض، حسب اعتقادهم.
ليس من المستغرب أن ينتشر هذا المرض أو غيره في طرابلس، التي تقتحمها الروائح الكريهة من النفايات وانتشار مياه الصرف الصحي في عددٍ كبير من أحيائها بلا حسيب أو رقيب، ومن دون تحرّك صحيح وفاعل من البلدية وأجهزتها، ولا يُمكن لوم أحد بعد انتشار المرض في بعض بيئتها التي تستقطب كلّ أنواع التلوّث، خاصّة أنّ الكثير من المحال التجارية تتضمّن بعض بضائعها مواد منتهية الصلاحية وآخرها “المرتديلا”، لكن يُمكن القول إنّ هذه الأزمة الصحية التي أدّت إلى دخول بعض الحالات الصعبة إلى المستشفيات، أو دفعت بعض الممرضين إلى معالجتها في المنازل عبر المداواة بالأمصال والمتابعة عن قرب، دخلت فعلياً مرحلة “البازار” الذي يتنصّل البعض فيها من مسؤولياته، فيما يقوم آخرون بإلقاء اللوم ضدّ “مجهول” كيّ تُرفع عنه هذه المسؤولية التي تتحمّلها أيّ جهة كان يُمكنها تدارك ما يحدث.
أكثر من 45 حالة (مؤكّدة) بينها أطفال تُواجه هذا المرض، الذي تتضمّن عوارضه: اصفرار العين، تعب وشعور بإرهاق مستمر، ارتفاع في درجة الحرارة وألم في المعدة، في وقتٍ تخشى مصادر طبية انتشاره بكثرة وبطريقة هي الأولى من نوعها داخل هذه المدينة، في ظلّ قيام بعض الهيئات والجمعيات بنشر الوعي للحدّ من انتشاره. ومن أبرز الطرق الوقائية: عدم استعمال كلّ ما يلمسه المصاب أو يستخدمه كالمعلقة، المرحاض، المياه… غسل اليدين والفاكهة والخضار جيّداً باستخدام المياه والمعقّمات إنْ أمكن وغيرها من الخطوات لتفادي الإصابة بمرض قد تكون نتائجه كارثية عند بعض الحالات، لا سيما عندما يُصبح لون جلد الطفل أصفر، ما يعني أنّ المرض قد قطع شوطاً كبيراً، بعد تأخر الأهالي في الحذر منه أو تأخر الطبيب في التشخيص والعلاج.
وفي حديثٍ مع أحد الأطباء شمالاً، أكد لـ “لبنان الكبير” أنّ “المرض انتشر عن طريق تلوّث المياه والطعام الذي يُروى من هذه المياه الملوّثة، وقد يكون اعتماد الناس خلال الفترة الأخيرة التي تنقطع فيها المياه على مصدر للشرب غير معقّم، أدّى إلى انتشاره واتضح أكثر مع بداية فصل الصيف وتراجع حدّة النظافة والوعي في هذه المناطق، وقد يكون من أحد الآبار أو ما يُسمّى بسبيل المياه مثلاً، أو من المحال التي تبيع قوارير أو غالونات للمياه غير صالحة وغير صحية. فالتقرير الذي نشرته مؤسسة مياه لبنان شمالاً يظهر أنّها غير ملوّثة، ولو كانت كذلك لكنّا عانينا منها منذ أعوام، فهناك أفراد يقومون بشرب المياه من الحنفية مباشرة من دون الفيلتر أو الجهاز المخصّص لتصفية المياه وتنقيته”.
بدوره، أشار ناشط سياسيّ في القبّة الى أنّ ظهور هذا المرض لا يُعدّ جديداً، بل ظهرت الحالة الأولى منذ أكثر من شهر تقريباً. وقال لـ “لبنان الكبير”: “رفعنا الصوت مسبقاً، وبعد وصول عدد الحالات إلى 8، قالوا لنا إنّها غير مثبتة مخبرياً ولكن تمّ إثباتها بعد مرور 15 يوماً، وبتنا في مواجهة أكثر من 80 حالة لم تُواكبها وزارة الصحة أو البلدية بالشكل المطلوب”، مع العلم أنّ البلدية كانت وضعت إمكانّاتها التي تبقى “محدودة” بتصرّف مصلحة مياه الشمال.
أضاف: “غالبية الحالات تعود الى أطفال دون الـ 15 عاماً، ومنهم ابنة أخي التي تعيش في وادي النحلة واتجهتُ خوفاً عليها إلى المستشفى الحكومي الذي لم يُدخلنا لعلاجها بحجة امتلاء الأسرّة. في حين طلبوا من صديق لي على صندوق المستشفى الإسلامي 1000 دولار أميركي، وبعد الأخذ والردّ، تحدّث معه أحد الأشخاص من داخل المستشفى لخفض المبلغ إلى 500 دولار، ليقول له صديقي انّني لا أحمل 100 دولار في جيبي. أمّا الممرضون فتتراوح تكلفة الأدوية والأمصال التي يستخدمونها يومياً ما بين 300 إلى 500 ألف ليرة”.
وعن تدخل جمعية “وتعاونوا” التابعة لـ “حزب الله”، أوضح أنّ الجمعية ترغب في التواصل مع وزارة الصحة العامّة لمتابعة مستجدّات التقارير ومعرفة مصدر المرض”، لافتاً إلى أنّ لا أحد من المواطنين رفض هذه الجمعية على الرّغم من معرفتهم بخلفيتها السياسية، “نظراً الى خوفهم على صحة أبنائهم ومصيرهم الذي يُقلقهم، وستقوم الجمعية بزيارة ضهر المغر في الساعات المقبلة”.