“المسرح الوطني” الذي إلتصق بإسم مؤسسه الفنان الكوميدي الكبير الراحل حسن علاء الدين “شوشو”، كان معلماً ثقافياً وفنياً من معالم وسط بيروت، بعدما نقش الفنان العبقري إسمه من خلال مسرحه على فضاء المدينة.
فقد كتبت مرة الأديبة غادة السمّان مقالاً ذكرت فيه أنها طلبت من سائق التاكسي أن يوصلها إلى “المسرح الوطني” فلم يعرف العنوان، وحين قالت له: “عند شوشو”، ضحك وأوصلها إلى باب المسرح!
إنها مغامرة كاملة، بكل المقاييس والمعايير، ولا شيء غير المغامرة جعل الفنان الراحل يؤسس مسرحاً يومياً من العدم، ليصبح عرشه الذي تربع عليه ملكاً إبداعاً وتمثيلاً وتعبيراً فكاهياً عن وجعه ووجع الناس.
إنه بإختصار شوشو المغامر الإنتحاري، المجنون (ربما) الذي نقش إسمه على فضاء المدينة، حيث سد الفراغات الهائلة بالمسرح الشعبي – الهادف، وبالجمهور المتفاعل إلى أقصى الحدود، حتى تحول إلى أسطورة مسرحية، لا بل أسطورة المسرح.
وإليكم القصة، التي لا تخلو من الصدف والتشويق:
تحويل سينما “شهرزاد” إلى المسرح الوطني:
أنشأ شوشو والمخرج والمؤلف القادم من طرابلس نزار ميقاتي والكاتب وجيه رضوان في تشرين الثاني 1965 في ساحة البرج “المسرح الوطني”، بعدما حلموا طويلاً بتأسيس نظام مسرحي يومي في لبنان، فكان لهم ما أرادوا عندما حولوا صالة سينما “شهرزاد” التي كانت تعاني من ركود في العمل إلى مسرح يومي، وكوَّنوا له فرقة بطلها ونجمها شوشو نفسه، الذي كان يكثف من عطائه ويضاعف من طاقاته لتتوالى العروض المسرحية على خشبة “المسرح الوطني”، إذ وصلت إلى 24 مسرحية، كأنه يتوقع موته المبكر (!)، بحيث كان على سباق دائم مع الوقت.
الطريف في الموضوع أن شوشو كان يمر بالمصادفة من أمام صالة “شهرزاد” فوجد مديرها ومدير صالة سينما “دنيا” أنطوان شويري عند مدخل السينما، سأله شوشو: هل تؤجرني هذه الصالة؟ فأجابه: لماذا؟. قال: أريد أن أجعل منها مسرحاً. قال شويري: أنا جاهز، تعال متى شئت. فصعق شوشو من الجواب، إذ لم يكن يتوقع أن يوافق شويري على تأجيره إياها بهذه السهولة. وفي اليوم التالي قصد شوشو الكاتب وجيه رضوان في “مقهى الحاوي” وقال له: لقد جاءت ليلة القدر. سأله: كيف؟، أجابه: إتفقت مع أنطوان شويري على تحويل سينما “شهرزاد” إلى مسرح. فوجئ رضوان إلى درجة الذهول، لأنه يعتبر فكرة إنشاء مسرح يومي مغامرة جنونية في بلد كلبنان(!).
مضت الأيام وعرض رضوان الفكرة على المخرج نزار ميقاتي وعرّفه إلى شوشو وتوجه الثلاثة إلى ساحة “البرج” وناقشوا الموضوع مع صاحب سينما “شهرزاد” هنري شقير ومديرها أنطوان شويري، وتم الاتفاق على أن يتولى شقير وشويري إعادة ترميم الصالة وتهيئتها بصورة جيدة لتصبح مسرحاً، على أن يتولى الثلاثة رضوان وميقاتي وشوشو تجهيز المسرح والممثلين وسائر العناصر اللازمة لقيام مسرح تمثيلي. وصعدوا في الليلة نفسها إلى مقهى “نصر” في الروشة وتوزعوا الصلاحيات والمهام، وقسموا الحصص، على أن يكون لشوشو أربعون في المئة ولميقاتي أربعون في المئة ولرضوان عشرون في المئة.
إبعاد شامل له دفعه الى إنشاء مسرحه:
المفارقة الغريبة والطريفة في الوقت نفسه أن محمد شامل (مكتشف شوشو) أبعده عن برنامجيه التلفزيوني والاذاعي بعد زواجه من إبنته فاطمة، من دون أن يكون راضياً عن ذلك الزواج.
أولى المسرحيات:
وكانت أولى المسرحيات “شوشو بك في صوفر” المقتبسة من مسرحية “زحلة السيد كيرشون” للكاتب الفرنسي أوجيه لابيش، وعرضت المسرحية في تمام الساعة الثامنة من مساء الحادي عشر من شهر تشرين الثاني 1965.
الانفصال بين شوشو وميقاتي:
في صيف 1970 إنتهت الشراكة بين شوشو وميقاتي. وظل شوشو في المسرح وعاد نزار إلى قواعده الاذاعية، وكان مدير البرامج في “إذاعة لبنان” ومنتج برامج لحساب الاذاعات الخليجية. واشترى الممثل المصري محمد الطوخي حصة ميقاتي في المسرح.
الناس يخلون المسرح يوم وفاة عبد الناصر:
بعد هذا الانفصال قدّم شوشو مسرحية “اللعب ع الحبلين”، التي إقتبس نصّها ريمون جبارة من مسرحية لغولدوني وأخرجها برج فازليان. كان الافتتاح ليلة 28 أيلول 1970.
وفي الفصل الثاني بدأ خروج الناس من القاعة، ولم يكن شوشو على الخشبة. ظن الناس أن مكروهاً أصابه، لكن تبين أن سبب المغادرة عند علمهم بأن الرئيس المصري جمال عبد الناصر قد رحل وأن بيروت إشتعلت لدى إنتشار الخبر.
المسرح الشعبي الراقي:
تطور أداؤه من مسرحية إلى أخرى حتى إستطاع مسرحه أن يطور نوع الكوميديا التي يقدمها. وأصبح مسرحاً شعبياً لا من حيث إقبال الجماهير فحسب، بل كونه أصبح منبراً شعبياً.
وبلغت عروضه الذروة مع مسرحية “آخ يا بلدنا” التي كتبها فارس يواكيم وأخرجها روجيه عساف، وتخللتها الأغنية – الصرخة “شحادين يا بلدنا” كلمات ميشال طعمة وألحان إلياس الرحباني.
شحادين يا بلدنا:
أطلق المرحوم شوشو من خلف جسده النحيل وشاربيه الكثين أغنية “شحادين يا بلدنا” في مسرحيته “آخ يا بلدنا” سنة 1974، كلمات الأغنية لا تنطبق على واقع ذلك الزمان حيث كان لبنان في بحبوحة وهناك فائض في الميزانية، ولم يكن هناك دين ولا عجز وإقتصاد منهار وظروف معيشية كارثية وفساد غير مسبوق كالذي نعيشه في أيامنا، وكأنه كان سابقاً لعصره وزمانه، ليتنبأ بما سوف تؤول إليه الأوضاع من إنحدار مخيف ومقلق على مستقبل وطنه، حيث تتكلم الأغنية عن نشالين ونصابين وعطشانين ومظلومين وجوعانين وطفرانين وأراض وجرايد وضماير ووزراء ومدراء وحجاب وشعراء وكتاب للبيع…
أبرز مسرحياته:
في ما يلي أبرز العروض التي قدمها شوشو على خشبة مسرحه الوطني:
“شوشو بك في صوفر”، “مريض الوهم”، “شوشو عريس”، “الدكتور شوشو”، “شوشو”، “شوشو والقطة”، “حيط الجيران”، “شوشو والعصافير”، “الحق ع الطليان”، “صبر تحت الصفر”، “البخيل”، “محطة اللطافة”، “اللعب ع الحبلين”، “كافيار وعدس”، “فرقت نمرة”، “جوه وبره”، “فوق وتحت”، “وراء البرفان”، “وصلت للتسعة وتسعين”، “حبل الكذب طويل”، “طربوش بالقاووش”، “آخ يا بلدنا”، “خيمة كركوز” و”الدنيا دولاب”.
شوشو الذي اعتبرت مسرحياته وأغانيه الساخرة ونكاته اللاذعة، أخطر على السلطات في حينها من فسادها وسوء أدائها (!)، توفي من شدة الارهاق والضعف البدني، بعدما عمل في الليل والنهار لسداد ديون بعض المرابين التي تراكمت عليه بسبب مشروعه “مسرح شوشو” اليومي في وسط المدينة والذي إحترق مع بداية الحرب الأهلية، وكأن القدر شاء أن يحترق قلبه الكبير في جسده النحيل قبل أن يحترق عمره الذي تجسد في مسرحه.
قدم شوشو آخر عروضه في الأردن في العام 1975، وفي طريق عودته، تعرّض لأزمة قلبية فتلقى العلاج في عمّان ثم عاد إلى وطنه حيث لازمته الآلام إلى أن فارق الحياة في الثاني من تشرين الثاني من العام نفسه. مات العملاق المغامر الذي أسس أول وآخر مسرح يومي جدي وراقٍ في لبنان، فاحترق المسرح ودمرت المدينة وانهارت.
إقرأ أيضاً: في ذكرى رحيل شوشو… نستحضر صرخته “آخ يا بلدنا”