بعد الحلقة الأولى عن الخريطة السوسيولوجية للانتفاضة، تتناول الحلقة الثانية والأخيرة هذه مميزاتها وخصائصها وأسلوب عملها. وتقترح على الانتفاضة خريطة طريق للتغيير من ضمن المؤسسات الدستورية القائمة في لبنان.
تميزت انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 بأربع خصائص طبعت أسلوبها الابتكاري ومقدرتها على الابداع.
1- السلمية: وتعني عدم المواجهة مع القوى الأمنية، وعدم مواجهة استفزازات قوى بعض أحزاب السلطة المكلفة بالقمع الرديف وافتعال المواجهات العنفيّة المضادة. هذا التوجه أربك آلة القمع وعراها. ولا يسع القوى الأمنية الإفراط في القوة، فيما يضع عنف ميليشيات الأحزاب البلاد على شفير حرب أهلية.
2- حوارية تفاعلية: خصصت الانتفاضة “أمكنة عامة” للحوار والنقاش تمثلت بنصب الخيم المتعددة المواضيع والمضامين في إطلاقها النقاشات المختلفة: سياسيّة، دستورية، إصلاحية ماليًا واقتصاديًا، ولمواجهة الفساد وتفكيك آليات وأساليب عمله.
3- تعبيرية تواصلية: أطلقت الانتفاضة، بالتعاون مع بعض محطّات الإعلام المرئي، حق أي مواطن في التعبير عن رأيه بحرية، وإعلان معاناته في مجالات حياته اليومية. وسمعنا كلمات وعبارات جديدة في القاموس الاجتماعي السياسي في لبنان مثل: الوجع، الإذلال. وانطلقت بقوة لافتة مطالب المحاسبة واتهام “الطبقة السياسية” مباشرة على الهواء بالفساد والجور والتسلط. وكانت مداخلات المنتفضين تتراوح بين “المطالب الوطنية العامة” و”مطالب المعاناة الخاصة” التي تعني المتكلم مباشرة.
4- إبداع خلاّق: إطلاق كمية هائلة من الصور والرسوم على الجدران في الأماكن المدينية العامة. فأصبحت الجدران ألبومًا مفتوحًا يروي الانتفاضة مباشرة في الهواء الطلق. وتميّز هذا الجانب بكتابة الأغاني وتلحينها، وإنتاج أشرطة فيديو ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، ناهيك عن تأليف النكات والقصص الساخرة. وأُفدنا عن إنتاج بعض المسرحيات والاسكتشات كرديف ثقافي تواصلي لأفكار الحراك وتوجهاته.
أساليب العمل
أما في أساليب العمل فاختارت الانتفاضة عن وعي وسابق تصميم أسلوبين مستحدثين في العمل السياسي في لبنان:
أ – عدم وجود قيادة مركزية ولا أي شكل من التنظيم الهرمية، ولم يكن لها ناطق محدد باسمه، ولا جهازاً إعلامياً موحداً. هذه الظاهرة بدأت في حركة 14 آذار 2005. وهذه ظاهرة سميناها “الحراك الأفقي، في مقابل “الحراك العامودي” الذي اتّسم به نظام التظاهر في بيروت منذ ستينات القرن الماضي.
ب – المطالب الشاملة: ضد الفساد، انتخابات نيابية مبكرة، إنهاء النظام الطائفي، فضح كل الخدمات المتعثرة، حكومة تكنوقراط، مستقلين، إلخ. وعدم وجود أولويات واضحة مبرمجة في تسلسل زمني، ولا خطط تنفيذية ولا تعيين مراكز قرار التغيير، وما تتطلبه من بناء ثقة الناس والمؤسسات بها. من شأن هذا الأسلوب المحافظة على تضامن وتماسك مكونات الانتفاضة، من دون الدخول في التفاصيل، أقله في هذه المرحلة.
أسمي هذا الأسلوب في العمل السياسي “السلبية البنّاءة” التي تراقب، تقيِّم، تحكِّم، وتقرر. وحتى الآن كانت قرارتها رفض التعاون مع سلطة الأحزاب والطغمة الحاكمة. والانتفاضة لا يمكنها إلاّ أن ترفض، لأنها لا تهادن ولا تنتظر شيئًا من القوى المسيطرة. فحقّق هذا الأسلوب الذي وصل إلى أعلى مراحله في “عرض الاستقلال” الكرنفالي في 22 تشرين الثاني 2019.
وحققت الانتفاضة نجاحين كبيرين: استقالة حكومة الحريري. فرض اسم نواف سلام في استشارات التكليف، بديلاً نموذجياً عن الحكّام الحاليين. وذلك باعتبار سلام يتمتع بالبروفيل السياسي المطلوب في هذه الحقبة.
د- حلقات الضعف: أجمع متابعون على اعتبار الخصائص والأساليب المذكورة أعلاه هي عناصر قوة الانتفاضة. لكن حسب لينين “غالبًا ما تكون عناصر القوة هي نفسها عناصر الضعف”. وقعت الانتفاضة في معضلة استراتيجية “فلسفة التغيير”: الخروج على المؤسسات القائمة، وإطلاق مؤسسات بديلة تشكل مؤسسات “الثورة” غير الواضحة المعالم حتى الآن؛ أو العمل في إطار المؤسسات القائمة والاحتكام إليها، مع الإشارة إلى خطورة التعامل مع الجماعة “المُرَحّلة” والطلب منها تطبيق القوانين والدساتير التي خرقتها وألغتها.
لذا بدت الانتفاضة متأرجحة بين هذه الطرحين، فلم تبلور الأول ولم تعتمد الثاني.
وما زاد الأمور تعقيدًا هو تمفصل الأزمة السياسيّة – الأخلاقية مع الانهيار الاقتصادي المالي. وقد مكّن هذا الأمر القوى المسيطرة من ممارسة أقصى الابتزاز باسم “الإنقاذ الوطني”، وعدم تقديمها أي تنازل على صعيد تركيبة الحكم والسلطة.
ولم تعر الانتفاضة أي أهمية لتأثير العوامل الخارجية على سياقات التغيير في لبنان. لقد أثبت البحاثة والمؤرخون ومَن كتبوا عن حروب لبنان، خصوصًا حروب 1975 – 1990 أن سيرورة أزمات لبنان في تاريخه المعاصر، لا تنفصل عواملها الخارجية عن الداخلية. وهناك خطورة كبيرة في إعادة تحويل البلد إلى ساحة مفتوحة للنزاعات الخارجية، ويصبح الحراك الداخلي خارج سيطرة القوى المحلية.
خريطة طريق للتغيير من ضمن المؤسسات
تصعب المناقشة الجدية والدقيقة لاستراتيجية التغيير من خارج المؤسسات، وهي تُغري أطرافًا واسعة من المشاركين في الانتفاضة. هؤلاء يعتبرون أن “الشرعية الثورية” تلغي أو تقلص الشرعية المنبثقة من الانتخابات النيابية التي حصلت عام 2018، والتي أفرزت أكثرية نيابية لصالح أحزاب قوى السلطات المسيطرة. ويطرح أصحاب هذا الرأي ضرورة إنشاء “مؤسسات الثورة”. هذا الطرح يلزم قيادات الانتفاضة أو منسقياتها بتصور أشكال مبتكرة ومبدعة من المؤسسات السياسية للمراحل الانتقالية. وهذا ليس سهلاً قط. وعليه أن يطابق روحية الانتفاضة اللبنانية التي لا تشبه غيرها من الانتفاضات.
والتحدّي القائم في هذا المجال يتمثل في إنتاج هيئات ومؤسسات تفرض هيبتها: أولاً، على المنتفضين أنفسهم، وتنتزع ولاءهم. ثانياً، تقنع المجتمع اللبناني وجماعاته. ثالثاً، تفرض هيبتها على المؤسسات والقطاعات الأمنية والإدارية والقضائية القائمة وتنتزع ولاءها.
وفي حال تبني الانتفاضة هذا الخيار التغييري الجذري، عليها أن تقيّم تقديرها الدقيق لموازين القوى، وأن تكون على معرفة دقيقة بالحدّ الأدنى لحجمها الجماهيري الفعلي، وحجم خصومها، وأن تكون على استعداد لمواجهة الانقلاب الشامل.
أما إذا كان الخيار هو التغيير من ضمن المؤسسات الدستورية والقانونية القائمة، فهناك مسار واحد واضح وقد أجمع عليه اللبنانيون في الطائف. هذا الاتفاق غير المُطبّق يضع خريطة طريق عامة يمكن العمل الخلاق على بلورتها في اتجاه مطالب الانتفاضة وتوجهات التغيير التدريجي.
من مطالب الانتفاضة الوطنية الذي تردد في ساحاتها:
1- إجراء انتخابات نيابية مبكرة خارج القيد الطائفي. وأحصر الطرح هنا بهذا المطلب البالغ الأهمية، لأنه يحاكي مسألة إعادة تكوين السلطة وانتظامها. تردد كثيراً في دوائر الانتفاضة مطلب إجراء انتخابات نيابية خارج القيد الطائفي، وعلى أساس “لبنان دائرة انتخابية واحدة”. وشدد بعض أصحاب هذا الطرح على أن هذه المطالبة “دستورية مئة بالمئة”.
الردّ هو أن هذا الطرح غير دستوري على الإطلاق. وضع اتفاق الطائف آلية في منتهى الوضوح للوصول إلى انتخابات خارج القيد الطائفي. وتتمثل هذه الآلية في تحقيق الأمور الآتية:
أولًا: تشكيل اللجنة الوطنية لتخطي الطائفية. وهذا هو المطلب الأساسي، قبل إجراء أي انتخابات (المادة ٩٥ من الدستور).
ثانيًا: المهمة الأولى لهذه اللجنة هو البحث في كيفية انتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي، ووضع آليات عملية للتنفيذ في مهل محددة.
ثالثًا: بعد إجراء عملية انتخاب المجلس الأول خارج القيد الطائفي، يُصار إلى انتخاب مجلس شيوخ ممثل للطوائف وفق آلية تضعها اللجنة الوطنية، ومرجح أن تكون هذه الآلية شبيهة بآلية القانون الأرثوذكسي.
رابعًا: يوضع ويطبق قانون اللامركزية الإدارية الموسعة.
هذه هي الآلية الدستورية التي وضعها اتفاق الميثاق الوطني في الطائف. ويظهر أنها تقوم على محطتين مفصليتين تحتّمان نقاشًا عميقًا وموسعًا:
الأولى محطة تشكيل اللجنة الوطنية. ولا بدّ هنا من أن تخوض الانتفاضة والمجتمع المدني مواجهة صلبة، كي لا يقتصر تشكيل اللجنة على قوى وأحزاب وسياسيي الفئات الحاكمة، بل على إعطاء الهيئات المدنية والمجتمع المدني وجودًا وازنًا ومرجِّحًا في تشكيل اللجنة.
الثانية محطة تشكيل مجلس الشيوخ التي تقود حتمًا الى بحث سجاليّ فعلي حول صلاحياته في التعامل مع مجلس النواب اللاطائفي والقوانين التي يصدرها.
وهنا لا بد من ملاحظة بالغة الأهمية: إذا عجزت اللجنة الوطنية عن الاتفاق حول إنشاء مجلس الشيوخ وصلاحياته، يعتبر المجلس النيابي المنتخب خارج القيد الطائفي بحكم المنحل، ويعاد العمل بالمجلس الذي سبقه أي المجلس الحالي.
في إطار هذه الأجندة التغييرية من خلال المؤسسات، يستمرّ دور الانتفاضة كما هو منذ البدء: قوة ضغط (تحقيقًا لهدف واضح، محدّد ومحوريْ: الوصول إلى الانتخابات النيابية المبكرة). قوة مراقبة ومحاسبة لتنتهي طبيعيًا إلى قوة تمارس السلطة من خلال شرعية الانتخابات.
ولا بد من ملاحظة أن مطلب تطبيق اللامركزية وتوسيع مفهوم “الحكم المحلي” من شأنهما، في حال تطبيقهما، تغيير الذهنية الإدارية الحوكمية في لبنان. لأن ذلك يؤدي إلى نقل الصلاحيات من المراكز الحكومية إلى السلطات اللامركزية، مما يعيد توزيع المسؤوليات في أمور الخدمات وحاجات الناس الأولية. وهذا يسهل المراقبة والمحاسبة على الصعيد المحلي، ويحدد الجدوى والفائدة من أي مشروع أو خيار، ناهيك عن إعادة توزع الواردات الضرائبية بشكل أكثر فائدة للمجتمعات المحلية. ولا بد للانتفاضة من أن تعيد موضوع اللامركزية إلى صدارة مطالبها وتحركاتها.