افترضت قوى السلطة التي شكّلت الحكومة، ومعها تلك التي سايرتها في جلسة إقرار الموازنة أمس الأول، أنّ الثورة انطفأت. رمت بالون اختبار صباح الثلاثاء لإعادة فتح الساحات والطرقات في بيروت وطرابلس. فعمدت القوى الأمنية إلى إزاحة العوائق الحديدية للإيحاء بعودة الحياة إلى طبيعتها في وسط البلد، لكن تبيّن لها أنّ جمهور 17 تشرين لا يزال حياً.
قلّ العدد، صحيح، لكن ثمة تمسّك بهذه المساحة العامة التي كرّستها الناس منذ أشهر. فعادت مجموعات المنتفضين وأقفلت طرقات ساحتي الشهداء ورياض الصلح، بما تيسّر من عوائق وبقايا خيام حرقها الشبيحة والقوى الأمنية معاً، وأعلنوا أنّ لا عودة إلى ما قبل الثورة. فإغلاق الطريق فتح مساحة عامة للنقاش وشتم الزعماء ورفض النهب والتعبير عن ظلم السلطة.
معادلة اجتماعية بسيطة قضت عليها القوى السياسية منذ عقود. ولشدة المفارقة، أنّ هذه السلطة نفسها عزلت مجالسها ومؤسسات اللبنانيين خلف جدار اسمنتي وشريط شائك، ترفع اليوم خطاب فتح الطرقات. وهنا يمكن طرح معادلة بسيطة جديدة: لتزل السلطة بلوكات الباطون والتحصينات وتفتح المسارب باتجاه البرلمان، وبعدها تُفتح طرقات العاصمة. لتتحصّن هي في مبنى مجلس النواب والثوار في الساحات المقابلة وليكسب القادر على التحمّل والصمود. ولو أنّ هذه السلطة لن توفّر عاملاً إلا وتستخدمه لإحباط الناس. لكن الفقر أقوى وكذلك الجموع الجائعة التي لا بد أن تنهش من جوّعها.
تبرير الوزير
سارع وزير الداخلية، محمد فهمي، إلى نفي واقع أنّ المطلوب فض الساحات. فقال في بيان صادر عنه إنّ “إزالة الحواجز الحديدية عند مداخل ساحة الشهداء أتت بهدف تسهيل حركة المرور أمام المواطنين في العاصمة”. يعني أنّ القوى الأمنية تعلّي سوراً لصالح السلطة وتحاول إسقاط حواجز حديدية، وحركة مرور المواطنين باتجاه البرلمان والسرايا الحكومي وقصر بعبدا ممنوعة. تسعى السلطة جاهدة للقول إنّ البلد عاد إلى ما قبل 17 تشرين، ولو أنّ حساباتنا المصرفية والدولار المفقود من الأسواق يقولان العكس. وكذلك تفعل أزمة الكهرباء المستمرة والأسعار النارية للمواد الغذائية، كما أنّ حال ناهبي المال العام نفسها. فحكومة مستشاري المستشارين، يُراد لها أن تمرّ ولو أنها ليس بيدها حلاً للأزمة ولا مشروعاً للمحاسبة. والمطلوب فعلياً أن يحلّ موعد جلسة منح الثقة للحكومة بلا جلبة في الشارع. أن يأتينا حسان دياب ومن معه من مستشاري المستشارين “على نظافة”. مع العلم أنّ الغطاءات السياسية والروحية لهذه الحكومة بدأت تتوالى.
الغطاء السياسي
نالت حكومة حسان دياب ثقة البرلمان قبل جلسة الثقة. هذا ما توحي به الأجواء السياسية. لكن ثورة 17 تشرين تنوي تعطيلها، بقطع الطرقات وتشكيل الجدران البشرية عند المداخل وكل الوسائل. وعكس ما افترضه البعض بأنّ تيار المستقبل وزعيمه سعد الحريري سيرفعان علم المعارضة البرلمانية، حلّت جلسة إقرار الموازنة لتقول العكس. المستقبل سيواجه بمحدودية الحكومة الجديدة. جاء تأمين كتلة المستقبل للنصاب فيها ليؤكد أنّ لغة المصالح الإدارية والحسابات السياسية أقوى من أي مبدأ أو موقف. ولو أنّ الحريري توّاق إلى العودة إلى السلطة، فهو يعلم أنّ ذلك لا يتمّ إلا بمفتاح رئيس البرلمان. فـ”باعه” تأمين النصاب، مقابل وعود جديدة ليس من شأنها إلا أنّ تحطّ من شعبيته في شارعه ومن موقعه السياسي. وللاعتبار نفسه كانت مشاركة كتلة اللقاء الديموقراطي أيضاً، التي أمّنت النصاب بدورها. ويُضاف إلى ذلك كله أنّ هذه الشخصيات والقيادات والقوى تعلم جيداً أن سقوط أحدها يعني سقوطها جميعاً، وفضح أحدها يعني فضحها مجتمعة. هذه قواعد اللعب السياسي وأصوله.
الغطاء الروحي
وصدر عن القمة الروحية لبطاركة الكنائس المسيحية الشرقية ورؤسائها موقفاً منح الغطاء لحكومة دياب وما تمثّله. ومما جاء في البيان دعوة “الآباء المواطنين المتظاهرين وبخاصة الشباب منهم… إلى التعامل بحكمة مفسحين في المجال أمام الحكومة لتحمل مسؤولياتها”. كما جاء في البيان نفسه أمل القمة في أن “يتسنى للحكومة الانصراف إلى تنفيذ الإصلاحات في البنى والقطاعات من أجل النهوض الاقتصادي المنشود، وتطبيق مبادئ العدالة الاجتماعية”. فالقمة وبطاركتها يريدون من المنتفضين منح الحكومة “فرصة” لاختبارها. ولا يُتوقّع من السلطات الروحية، المرتبطة عضوياً بالسلطة السياسية من خلال المخصصات والموازنات ومنع القوانين المدنية وغيرها، أن تمشي خلافاً لها. بل ستفعل كما هو مطلوب منها. ستتشارك مع السياسيين في شراء الوقت والهروب إلى الأمام لأنّ الهيكل سيُهدم. وعلّ بعض الأصوات الروحية، الفردية والنادرة، ستبقى تغرّد وحيدة خارج السرب، لكن تفضح ما تفضحه من تواطؤ.
على مدخل شارع ويغان، بين مبنى جريدة النهار وأوتيل لو غراي، حوّل المنتفضون شريطاً شائكاً من مخلّفات حماية القوى الأمن للبرلمان إلى ممرّ شرفي. وضعوا فوقه لوحاً خشبياً وحوّلوه إلى جسر صغير. فالشريط الشائك وُجد ليُكسر، وكذلك الاستبداد والتسلّط.