لم يأت رئيس الحكومة حسان دياب ليملأ فراغاً ما بين الحريري قبل 17 تشرين والحريري لاحقاً. أقلّه، هو لا يعترف بهذا الواقع، الذي قاد رئيس كتلة المستقبل إلى تقديم التنازلات وتسهيل التشكيل على أمل عودة يضمنها له حليفه القديم الجديد نبيه بري، الذي أيضاً له مع دياب صولات كثيرة ستكون في الأيام المقبلة. صولات في الظاهر مع من يسكن السراي، أما باطنها فهي لا تحيد عن حليفه الأول حزب الله من خلال جميل السيد، الذي كان يتحضر لـ”الوراثة” على مهل، وها هو يستعجلها كثيراً اليوم.
الخروج من الشقة
حين كُلّف حسان دياب تشكيل الحكومة، قيل الكثير عنه. لكنه في المحصلة، فعل ما لا يتوقعه كثيرون، فله الجلد في المماطلة والاحتواء لا يتمتع بهما إلا قلّة. الفارق بينه وبين بقية من كان يُمكن أن يكونوا مكانه، أنه آتٍ إلى مركز يُخرجه من أستاذ جامعة استعمله نجيب ميقاتي، ويُدخله في نادي رؤساء الحكومات إلى آخر العمر. أي بالنسبة له، لا شيء سيخسره مهما حصل. بل على العكس، هو فاز باللقب وفاز معه بشيء أهم بكثير: رئيس حكومة لا يصعب التعامل معه. ولا يريد الكثير لنفسه لأنه في الكرسي وحيداً متخففاً من أعباء الطائفة والناس. وهذا مُغرٍ. هذا بالضبط ما جعله يصل ويُشكّل، وقريباً سيحصد ثقة مجلس النواب. لا يهم، لكنه سيحصل على إذن عبور لمرحلة يعرف جيداً أنها ستطول، ويريدها أن تكون “أبدية”.
وقد يكون من أجل هذا السبب بالذات، قرر أن ينتقل مع عائلته إلى السرايا الحكومية. خطوة لم يقم بها كُل من سبقوه، مُنذ أن دشّن رفيق الحريري المقر الجديد بعد ترميمه عام 1998. دياب، ترك منزل أستاذ الجامعة في تلة الخياط وانتقل إلى مكان يليق باللقب بالنسبة إليه. كيف يقطن في شقة في بناية في شارع فرعي، وهو رئيس حكومة لا يقل شأناً عن ساكن عين التينة أو ساكن بعبدا. وهو أيضاً، جديد على نادي الرؤساء. فلا هو الملياردير نجيب ميقاتي ولا ابن رفيق الحريري، ولا سليل عائلة سلام. ولم يتسن له الوقت بعد كي يُشيد القصور التي تخوله أن يقطنها، فلا يعود بحاجة لأن ينتقل إلى السرايا، وأن يفصل عداد الكهرباء خلال إقامته فيها كي يدفعها هو من “ماله الخاص”.
ضبط عداد الكهرباء
هي عملية مُعقدة بدأ من خلالها دياب حياته السياسية كرئيس حكومة اللون الواحد، والتي هو مُقتنع بأنها حكومة تكنوقراط، طبعاً. هذه القناعة التي لا يُغيرها كل الواقع المحيط بالحكومة وبالأسماء وبكيفية تشكيلها وبجميل السيد وجبران باسيل (والخليلين) وكُل من وضع لمسته لكي يصل رئيس الحكومة إلى السرايا من أجل أن يفصل العداد، ويبدأ عهد الشفافية الموعودة. عهد، افتتحه، طبعاً بعد أن أمّن على العداد، بتمرير موازنة حكومة سعد الحريري، وهو الآتي بوعود إصلاحية تُخرج البلاد من المأزق الذي أوصلته إليه موازنات كالتي مرت منذ أيام، ولم يكن لديه عليها أي اعتراض، لأنه ضبط عداد الكهرباء جيداً، فما حاجته لغير ذلك، الحين.
دخل رئيس الحكومة إلى بيته الجديد في 22 كانون الثاني، حيث كانت زوجته وأولاده في انتظاره. “كبر البيت” يا حسان. كبر البيت وكبر الطموح، وعليه، كان لا بد من تحصينه. وهنا تحديداً يأتي دور محمد فهمي، خبير الحمايات و”الحيطان”، ليشيّد السور الذي عليه يُلقي رئيس الحكومة همّ استمراره، ارتفع الجدار ومعه صار بالإمكان ممارسة طقوس الحياة العائلية بشكل عادي. فوراء السور لا خطر، وأمامه، ناس يدعي حسان دياب أنه على تواصل معهم. لكنه في الوقت نفسه يخاف منهم. ناس يدعي أنه أتى ليُمثلهم، ولكنه في الوقت نفسه لم يُمثلهم بحكومته. المهم، يُشيّد الرئيس الجدران كي ينام قرير العين على وطن يهرول سريعاً نحو انهيار على الصعد كافة. يُشيد الرئيس الجدران كي يستطيع أن يكون رئيساً على موظفي السرايا ومجموعاته الأمنية، والذين قريباً سيسألونه حين يصحو بعد ليلة دافئة: أين الراتب؟ والأرجح أنه سيرد وهو يبتسم بكثير من الثقة: “ألا تثقون بي. عيب”.
بانتظار الكتاب الجديد
هذه الثقة نفسها التي دفعته ليقول إنه آت ليُنقذ البلد من “كارثة اقتصادية”، حين انتقل إلى المنزل الكبير الجديد. وهي نفسها التي دفعته بعد أن استقر في مسكنه الجميل، وفصل العداد، أن يقول إن “الصورة السوداوية التي نسمعها ويسمعها الناس هي صورة غير صحيحة أو غير دقيقة”. تناقضات من هنا وهناك، لا تُعبر سوى عن حسان دياب ذي الملامح غير المفهومة، التي لا تقول شيئاً، وتقول كُل شيء في آن. هو انتقل إلى السرايا، ولن يخرج منها بسهولة، لن يخرج إلّا بشيء أكبر بكثير من طموح رجل ينتظر عنوان جريدة اليوم التالي، ليطلع على ما قام به من إنجازات قبل يوم، إنجازات قد لا تعدو كونها لقاء بسفير، أو مأدبة غداء مع مستشاريه، أو إثر زيارة مفاجئة من السيّد أو من باسيل، لا فرق، كتابه المُقبل سيتحدث عن هكذا لقاءات بإسهاب.