اللهجات ونهر السخرية الجارف في ثورة 17 تشرين

الاحتجاج اللهجوي وتبنيه، إعادة تشكيل الذات والآخر، ومعنى الوطن والمواطنة

2 فبراير 2020آخر تحديث :
اللهجات ونهر السخرية الجارف في ثورة 17 تشرين
منى مرعي

فهمت سيغريد كاغ، وزيرة التجارة الخارجية والتعاون الإنمائي في هولندا، ما يجري في لبنان ثورة 17 تشرين الأول 2019، أكثر بكثير منا نحن اللبنانيين المتورطين عاطفياً بالثورة، أو الخائفين والمتجهمين منها.

المواطنة واللهجات
في مقابلتها مع هادلي غامبل، بحضور جبران باسيل، وصّفت كاغ الأزمة اللبنانية بوضوح لا لبس فيه. فذكرت  أن المثير في التظاهرات التي بدأت سلمية، يكمن في كونها تتحدث في موضوعتين أساسيين: المواطنة ووضع حد فاصل ونهائي للفساد.

والصعوبة التي يواجهها كثيرون في فهم معادلة  المواطنة واحتلال الشوارع والساحات العامة، لإنهاء الفساد بالسبل السلمية واللا سلمية.

وأكثر من استجاب لهذه المعادلة، وكان جزءاً أساسياً في تكوينها، هم أهل الأطراف. أولئك الذين يعرفون جيداً كيف تلفظ  أشباه الأوطان أبناءها وبناتها، وكيف تجردهم أكثر من سواهم من الانتماء.

ولم يكن احتلال الساحات والشوارع استرداداً للفضاء العام فقط، بل بعثاً للهجات المختلفة والمتباينة وتجاورها وتلاقحها في الحياة والفضاء العموميين: ساحات التظاهر، الشاشات التلفزيونية، ووسائل التواصل الاجتماعي.

فاللهجة اللبنانية البيضاء، أو لهجة الرحابنة الجبلية المخففة (في جبل لبنان المتمدّن)، ولهجة أهالي عكار، وتلك البقاعية والبعلبكية، وكذلك الجنوبية، وسواها من اللهجات، لم تعد كلها عرضة للتنميط الفولكلوري، لتحيل مرةً إلى نكات حسين حمية، وأخرى إلى فطنة أديل أو أمل طالب أو عباس جعفر…

لقد باتت كل لهجة من اللهجات اللبنانية حاضرة في ذاتها حضوراً حيوياً خاصاً، لتضاف إلى كلام الثورة ولغتها وشعاراتها وهتافاتها وأغانيها، التي صارت لحظات صوتية وأدائية في ذاكرتنا الجماعية.

وهكذا تحولت اللهجات مساحات صوتية ومكانية يعاد اكتشافها بوصفها فعل احتجاج ومواجهة. اللهجة هنا ليست لغة للفصل، ولا متراساً يُنشئ قطيعة لا عودة عنها بين أهل المناطق، بل هي إعادة تشكيلٍ فعليّ لجغرافيا الوطن، على نحو جعل كل مدينة أو قرية مهمشة، مركزاً أو عاصمة في لحظة ما من لحظات الثورة ومسارها.

هكذا استعمل كل من تميم عبدو الطرابلسي، ونورا غيث الشوفية، لهجته المحلية التي كانت تجردهما منها اللهجة اللبنانية البيضاء. فعندما تُتناقل هتافات كل منهما بلهجته المحلية، ويجري تداولها وتشاركها، تستردّ شريحة كبيرة من الناس في مناطقهما وفي سائر المناطق، شرعية وأحقية وجودها بعيداً عن مظلة الأحزاب والزعامات. وليس انتشار هذا الاحتجاج اللهجوي وتبنيه، وترحيب الآخرين به، إلا تأكيد على الانسلاخ والتداخل والتلاقح في عملية إعادة تشكيل الذات والآخر، ومعنى الوطن والمواطنة.

محليّة وتشهير جامع
هذا ما يحدث عندما يهتف تميم عبدو بلهجته الطرابلسية: “معلمي معلمي/ انتا حرومي على علمي”. ثم يشدّد قائلاً: “شعبنا ممنوع يجوع/ حرب أهلية ما في/ نكاية فيك وفيه”. وهذا ما يحدث أيضاً عندما تلتقط نورا غيث أنفاسها بين كل جملة وأخرى، فيما هي تصرخ بلهجتها الشوفيّة: “التغيير مشروع مشروع/ ويللا إنزل عالشارع”، فتنتفض يداها وينتفض صوتها ويختفي، ليعود مجدداً بكل قوته.

هذه الكلمات، على بساطتها، مدهشة في توصيف المشهد الذي كان فهمه عصياً على كثر. ومدهشة في  توافرها على عنصر الفكاهة في مواجهة أساطين السلطة.

وفي ثورة 17 تشرين، بدأ مكوّن جديد بالظهور في هتافات الثورة وأغانيها: التشهير بالفاسدين وتسميتهم بأسمائهم. أقلّه في حالة تميم عبدو الذي لم يوفر نجيب ميقاتي النائب الطرابلسي ورئيس الحكومة السابق، ولا النائب الطرابلسي الآخر محمد كبارة، ولا النائب العكاري أحمد فتفت.

لقد بنى هتّاف طرابلس سردية ساخرة من كل هذه الأسماء. لم يهادنها ولا مهذباً في  كلامه الذي لم يكن   جارفاً في عنفه: “خبرني كم سيارة اشتريتلك يا كبارة/انفتح طرف صباتي/بتظبطلي ياه؟”. أو: “دخلك عندك حدا مات/الميقاتي بيفتحلك بيت”. أو: “شو يا فتفت/ جايب شاي؟”.

كل ما أراده تميم تحجيم لهذه الزعامات، وهزء بها. وهو يختم هتافاته صارخاً: “يا كبير يا كبير/ يا طروبلسي يا كبير”.

وابراهيم الأحمد، ابن القبة في طرابلس بعدما عاش مدة يسيرة من طفولته في حي الفوار في صيدا، لا يبدو بعيداً عن تحجيم الزعامات والأحزاب الطائفية في لبنان وتسمية الأشياء بأسمائها. ففي إحدى أغانيه يجعل من عبارة “آه يا هبيلة”، لازمة أغنية  يخاطب بها كل من لا يريد رؤية حجم الاحتجاجات في الشارع. فيقول: “لا تقلي جايي حكومة فيها جبران باسيل”. وهذا في خلطة موسيقى تحوي شيئاً من الكيتش الذي يتراوح بين موسيقى النوادي الليلية والأعراس الشعبية معاً. ويحاول الأحمد شد عصب المناطق. فيستخدم تقليداً رائجاً في تعداد المناطق اللبنانية ومزايا أهلها، نازعاً عنه نمط  أغاني وديع الشيخ وكارلوس اللذين غنيا للحريري ونصرالله وبري، لينقضّ على سلطة الطوائف والأحزاب.

نهر السخرية الجارف
على مسافة موازية من الهزء والفكاهة والسخرية، تبرز لحظة أسطورية: رجل ينزع أسلاك شائكة في ساحة رياض الصلح. تسأله المذيعة التلفزيونية حليمة طبيعة ماذا تفعل، فيجيبها: “عم قصر البنطلون”.

لكن نزع رجل أسلاك شائكة في لبنان اليوم، ليس فيه شيئ من الأسطورية. فمواجهة المواطنين لشرطة مجلس النواب وما يشبهها من أجهزة، أصبحت طبيعية جداً. لكن الأسطورية في الجواب بتقصير البنطلون، تكمن في أننا لم نر وجهه على الشاشة، ولا على وسائل التواصل الاجتماعي. للوهلة الأولى تبدو الإجابة مضحكة، ويمكن إضافتها إلى جملة الاستهزاءات التي اضطلع بها الثوار، وكانت منبعاً مهماً لراديكاليتهم.  وهي تذكر بشاب في الأيام الأولى للثورة، سأله الإعلامي مالك الشريف بكل جدية عن رأيه باستقالة الحكومة وأهمية التظاهرات، فأجاب بعدما طلب تكرار السؤال مرات ثلاث، أنه ممتعض جداً. في كل مرة امتعض فيها كان يصمت ليقول إنه ممتعض لأنه أضاع عمته سعاد منذ ثلاثة أيام، ولم يجدها. حينها انفجر مالك الشريف ضاحكاً خارج الكادر. ولو سألت المذيعة رجل تقصير البنطلون: هل يستجيب حسان دياب مطالب احتجاجكم في الشارع؟ قد يكون رده مثلاً: “عم بشيل توتيا” أو “مكنة الخياطة مش شغالة” أو “ليكي شفتيلي البنطلون ما عم لاقيه”.

إبراهيم الأحمد:

https://www.youtube.com/watch?v=zVrV0LV9VIk

 تميم عبدو:

 https://www.youtube.com/watch?v=8oXea5qIY3Y

 https://www.youtube.com/watch?v=OGeD27NldmQ

 نورا غيث:

https://www.facebook.com/cnbcinternational/videos/2748151661905189/UzpfSTcwMjg5MDcxNjQ3ODczODpWSzoyNzQ4MTUxNjYxOTA1MTg5

المقالات والآراء المنشورة في الموقع والتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي بأسماء أصحـابها أو بأسماء مستعـارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لموقع “بيروت نيوز” بل تمثل وجهة نظر كاتبها، و”الموقع” غير مسؤول ولا يتحمل تبعات ما يكتب فيه من مواضيع أو تعليقات ويتحمل الكاتب كافة المسؤوليات التي تنتج عن ذلك.

المصدر المدن