بعد إنتهاء الموجة الأولى.. مراجعة في أخطاء ‘الثورة’!

4 فبراير 2020
بعد إنتهاء الموجة الأولى.. مراجعة في أخطاء ‘الثورة’!

الموجة الأولى من الإنتفاضة الشعبية التي بدأت في 17 تشرين إنتهت، هذا بات ثابتاً، وكل ما نعيشه اليوم هو موجات إرتدادية للحدث الكبير الذي بدأ حينها.

إستطاعت التحركات الشعبية المستمرة أن تحدث تغييرات بنيوية في طبيعة المجتمع السياسي اللبناني، كما أنها فرضت على جميع القوى السياسية القيام بمراجعات وخلقت نوعا من آليات الضغط الحقيقية القادرة على الفعل وإجبار السلطة، أياً كانت، على القيام بردّة الفعل وهذا ما يمكن إثباته في مواضع عدّة، لكن في المقابل، إرتكبت الإنتفاضة أخطاء فادحة أدت إلى عدم تحقيقها نتائج مباشرة.

يحق للمنتفضين أن يحددوا، وحدهم، طبيعة الحركة السياسية الشعبية التي يقومون بها، وتالياً من حقهم تسميتها بما يرغبون، لكن إصرارهم على تسمية الإحتجاجات بالثورة تفرض عليهم الإلتزام بسقف عال من الأهداف، وقبولهم بمسار حاد في الصراع مع قوى السلطة. فالثورة جذرية بطبيعتها وتالياً يجب على المنتفضين أن يمتلكوا عوامل قوّة حقيقية ومشروعا سياسيا واضحا يمكنهم من قلب السلطة والدخول إلى البرلمان والإعلان عن مشروعهم لبناء الدولة، ويجب عليهم أن يتصالحوا مع أي صراع شوارعي مع مناصري الأحزاب لأنهم في الأصل وضعوا أهدافا جذرية، بوسم حراكهم بالثورة، ضدّ الأحزاب المكونة للسلطة.

هنا يكمن الخطأ الأول، إذ ان المنتفضين رفضوا الحوار مع السلطة في خطوة جذرية واضحة لكنهم في المقابل لم يقدموا مشروعاً واضحاً بديلاً للحكم، كما أنهم إفتقدوا القدرة الميدانية على قلب المشهد، مما أدخل الإحباط إلى جزء أساسي من الذين شاركوا في التظاهرات الكبرى.

التأثير والفعل الميادني خسره المتظاهرون منذ الأيام الأولى إذ إنهم جنحوا رغم خطابهم الراديكالي في السياسة، إلى عزل المشاغبين وإتهامهم بالتبعية للأحزاب وتخريب الإنتفاضة، وأصروا على السلمية، علماً أن مثيري الشغب هم بشكل أساسي من أبناء الطبقات المهمشة في المجتمع والذين يقومون بردود فعل عنيفة (نسبياً) ضدّ السلطة التي لم تنصفهم.

هنا خسرت الإنتفاضة المشاغبين الذين كانوا سيكونون رأس الحربة في مواجهة أي محاولة قمع ضدهم، وهو ما لا يستطيع السلميون والنخب مواجهتها.

لكن الخطأ الأكبر الذي وقع به المتحمسون، وهم للمفارقة الفاعلون في الإحتجاجات، أنهم أخذوا منحى معاكسا لما تنتهجه أي حركة سياسية، ثورية كانت أم تقليدية، فمنذ اليوم الأول ذهب المحتجون إلى إستعداء مناصري الأحزاب بدل إستقطابهم، ورفعوا خطابات تهاجمهم وتحملهم مسؤولية إنتخاب زعمائهم وتالياً دمار البلد، الأمر الذي كتّل مناصري الأحزاب ضدّ الإنتفاضة تدريجياً وجعلهم ينسحبون تباعاً من الساحات، ففقدت الإنتفاضة قدرتها على الإستقطاب، وهو أفضل ما قد تتميز به أي حركة سياسية في العالم.

تدريجياً تحولت الإنتفاضة إلى حركة إحتجاجية تهدف إلى الإحتجاج فقط، أقله في نظر جزء من الرأي العام، ففي حين لم تعلن عن أي خطة ومشروع سياسي أو إقتصادي أو مالي بحجة أنه على القوى الذين تتشكل منهم السلطة الحالية تقديم البديل الذي يرضي الناس، سعوا منذ اللحظة الأولى إلى إسقاط الحكومة المعنية الوحيدة بتحقيق أي مطلب شعبي، ولاحقاً رفضوا المرشحين الذين طرحتهم السلطة ورفضوا إنعقاد مجلس النواب لإقرار بعض القوانين ولاحقاً لإقرار الموازنة، واليوم يرفضون حصول الحكومة على الثقة. هذا الخطاب المتناقض يضعف حجة الحراك، ففي حين يطلبون من السلطة تحقيق المطالب يسعون إلى البقاء في الفراغ الدستوري رافضين كل ما ينتج عن هذه السلطة. فإذا لم يكن هناك سلطة تنفيذية على من سيضغط المنتفضون؟ ومن سيقوم بتحقيق مطالبهم ويضع المشاريع الإقتصادية والسياسية التي ترضيهم؟

إقتنع المنتفضون أنهم غير قادرين بقوتهم الذاتية على تحقيق الثورة الكاملة وقلب السلطة وعزل أحزابها، واقتنعوا ربما بأنهم ملزمون بمسار دستوري تسيطر الأحزاب عليه بشكل كامل، لكنهم لا يزالون يكابرون ويصرّون على الهدم الكامل، وهو، وللأسف، لا يحقق في حالتنا أي من المطالب الإجتماعية والإقتصادية التي أدت إلى تحركات 17 تشرين.

ولعل المنتفضين أخطأوا أيضاً في الخجل من خطاب “الوصول إلى السلطة” وإبعاده عن منابرهم، فما لزوم الحركات السياسية إذا لم تكن ترغب فعلياً بتحقيق مشروعها داخل السلطة بعد وصولها إليه؟ وكيف يمكن الوصول إلى السلطة إلا بإستقطاب فئات شعبية كانت من حصة الخصوم؟ وبتحقيق إنجازات محددة كانت ممكنة لو رفض المتظاهرون سقوط الحكومة ووضعوا أمامها عددا من البنود وأصروا على تحقيقها كشرط للخروج من الشارع؟