جونية تستقبل طرابلس: البشر الطبيعيون في مواجهة كائنات مريضة

الخطاب العوني يفسّر لنا لماذا نحن في الثورة

7 فبراير 2020
جونية تستقبل طرابلس: البشر الطبيعيون في مواجهة كائنات مريضة
نادر فوز
نادر فوز

استقبلت كسروان طرابلس مساء الخميس 6 شباط، لا بل استقبلت وفوداً من كل لبنان، من الشمال والجنوب والعاصمة. فكل التحريض الطائفي والمذهبي والمناطقي، الذي قام به التيار الوطني الحر في اليومين الماضيين جاء الرد عليه بهذه البساطة: باصات من طرابلس والضنية وعكار ومواكب من بيروت والساحل.. وصلت إلى ملعب فؤاد شهاب، وكسرت السور المعنوي السياسي والطائفي، الذي تسعى السلطة يومياً إلى تدعيمه بين الناس. وببساطة أيضاً، هذا حال الصراع في الشارع. الناس في مواجهة السلطة. السلم الأهلي في مواجهة الحرب الداخلية. الفقراء في مواجهة الأغنياء. المدنيون في مواجهة الطائفيين. المنفتحون في مواجهة الانعزاليين. الإنسانيون في مواجهة العنصريين. العادلون في مواجهة الفاشيين. البشر الطبيعيون في مواجهة كائنات مريضة.

غريب كسروان
في كسروان أسطورة “الغريب” شائعة. هذا ما تتناقله الشفاه أساساً. فلو عاش ابن الانسان هناك مئة عام، سيبقى “غريباً” عن المنطقة بمنطق أهلها. وهذا يعود، حسب ما يتداول به الناس هنا، إلى زمن وصول المسيحيين غير الموارنة إلى المنطقة وتأسيس كنائسهم فيها. هم كانوا غرباء أيضاً، فانطلقت التسمية وبعدها تبلورت وفق السياقات الاجتماعية والمناطقية والطائفية لاحقاً.. ولا زالت مستمرة إلى اليوم. هو أمر مفروغ منه، مركون في الموروث الجماعي والثقافي. عبارة تخرج “تلقائياً” من الأهالي بحق الجيران والأصحاب حتى. فيها الكثير من التصنيف، تعني “الإهانة” ولو عن غير قصد. لكن من اعتدى على الثوار وضربهم وأهانهم فعل ذلك عن سابق تصوّر وتصميم. وفي الأصل، هذا منطق الفاشيين وأسلوبهم في كل العالم. يتكاثرون، بطشاً، حول ضحايا محدودين علّهم يوصلون رسالتهم السوداء. وهكذا كان الحال مع وليد العلي.

بطل طرابلس في اعتصام ثوار كسروان، في موقف ملعب فؤاد شهاب (يا لهذه المفارقة الجميلة)، كان وليد العلي (25 عاماً) مساء الخميس لا يزال جالساً في الخيمة. هو الذي ظهر وهو يُعتدى عليه ويهان على يد بلطجية التيار الوطني الحرّ ليل الأربعاء- الخميس. البطل الذي عرّى المعتدين الشبيحة، الذين ما أن لفظ أنه ابن طرابلس حتى فاحوا طائفية وعنصرية ومناطقية وانعزالية. وليد باقٍ في كسروان رغم أنف الكارهين. يقول إنّ المعتدين “بلا مذهب، طائفيون ومذهبيون ويشتمون كل الناس”. فهؤلاء “سبّوا النبي، الإمام علي، عيسى المسيح، مريم، الدروز، سبّوا كل المناطق، فمن هم”؟، يسأل. الجواب معروف، هؤلاء أنصار التيار الوطني الحر برئاسة النائب جبران باسيل. والأخير معروف أيضاً بزياراته السوداء إلى المناطق حيث ينكأ الجراح. وحوله “بوطة” من الاستفزازيين الذين لا يترددون في نبش المقابر وخطاب الحرب الأهلية كل حين. هم يقيسون ذلك وفقاً لمصالحهم. يعتبرون أنّ شد العصب الطائفي يقوّيهم، ولو جاء ذلك على حساب دم شاب من طرابلس أو في قبرشمون.

“جوعانين جزر”
لكن لوليد توصيف آخر للمعتدين، هم “أرانب، جوعانين جزر، استقووا أيضاً على فتاة وقاصرين”. يصف ما حصل بـ”العيب”، “لا مشكلة لي أن أضرب من قبل أرانب لكن لماذا الاعتداء على النساء والقاصرين”؟ وليد في كسروان، اليوم وكل يوم، للتأكيد على أنّ “لا مناطق منفصلة عن أخرى في لبنان”. هو مع أهله في المنطقة. الشاب الذي خسر عمله كنادل في أحد المطاعم باقٍ في الثورة. يشارك فيها منذ اليوم الأول “من أجل أهلي وعملي والضمان والاستشفاء، من أجل جوعي ومستقبل لا يتحكم به الزعماء”. والأكيد أنّ ثوار طرابلس الذين ردّوا على الاعتداء والتحريض والطائفية بوعي كامل، أكمل خطوتهم ثوار كسروان. أكد هؤلاء فعلياً أنّ لا أسوار تحدّ أي منطقة في لبنان، ولا عوائق معنوية أو شعبية في التلاقي. ليس هذا فولكلوراً، إنما من مكتسبات ثورة 17 تشرين. فالثورة جمعت اللبنانيين حول حقوق ومطالب، واسقطت أمراء الحرب وخطاباتهم وتقسيماتهم. وهذا سبب استفحالهم في القمع الرسمي حيناً واللجوء المتصاعد إلى التشبيح والبلطجة حيناً آخر.

من لبنان وخارجه
على من يتمسّك من الكسروانيين بمنطق “الغريب”، عن قصد وبهدف الأذية والانغلاق، أن يعلم أنّ أمام ملعب فؤاد شهاب أمس وصل وفد من السيّاح المصريين للتضامن مع اللبنانيين. كان هؤلاء في فاريا، يتنزّهون. فحطوا في فؤاد شهاب، علّهم يستعيدون بعضاً من ثورتهم التي أكلها العسكر. تصوّروا مع الثوار ومع العلم اللبناني وتمنوا لنا حظاً ثورياً أوفر. ولاحقاً وصلت مجموعة من الناشطين والناشطات الطرابلسيين. أبناء “العروس” كسروا في الأشهر الثلاثة الأخيرة كل الشيطنة والسوء الذي قادته السلطة تجاههم. حضروا أمس للتأكيد على “عدم القبول بالتقسيم الطائفي والمناطقي، ولا نقبل بأن يحدد لنا ما هو المسموح لنا والممنوع علينا”، حسب ما تقول أميرة الداية، إحدى منظمات المسيرة من طرابلس إلى جونيه. تقول أميرة أيضاً إنّ الخطاب الذي خرج في اليوميين الماضيين، أي الخطاب العوني، “يفسّر لنا لماذا نحن في الثورة، ويفسّر كم أن السلطة لا تشبه الشعب”.

فعلاً، السلطة لا تردك أنها تعطينا يومياً تمريناً يذكرنا بضرورة الثورة عليها وإسقاطها، من كبيرها إلى صغيرها.

المصدر المدن