الأحزاب الكبرى و”لعنة” 17 تشرين: الثورة تُنظف نفسها

على أمل أن تكون الثورة مقتلاً للأحزاب الطائفية

8 فبراير 2020
الأحزاب الكبرى و”لعنة” 17 تشرين: الثورة تُنظف نفسها
أيمن شروف

تراجع زخم 17 تشرين ليس بالشيء الجديد. أسباب هذا التراجع كثيرة، من بينها أن جزءاً كبيراً من مناصري الأحزاب، قرروا الانكفاء. لديهم مُبرراتهم التي هم مقتنعون بها كثيراً. تبدأ بتراجع النفس العام لدى الناس ولا تنتهي باعتراضات على شخصيات ومجموعات موجودة في الساحات ولديها خطابها المناهض للأحزاب كلها، وأخرى لديها عداء ليس بجديد مع بعض الأحزاب، التي كان مناصروها من الممتعضين/المشاركين بالاحتجاجات الشعبية.

حين بدأت الاحتجاجات الشعبية، وجدت كافة الأحزاب أنها أمام واقع من الصعب التعامل معه. واقع جديد عليها ولم تكن في يوم من الأيام مهيّئة للتعامل معه، خصوصاً تلك الكبيرة منها، والتي كانت منذ ما بعد الطائف جزءاً أساسياً من السلطة، والتي تتحمل بشكل كبير الانهيار الذي يعيشه اللبنانيون. ومحازبوها جزء لا يتجزأ من هؤلاء الذين يبحثون عن لقمة عيش تبتعد عنهم يوماً بعد يوم.

“المستقبل”.. ولا أي مكان
كان الناس بمختلف أطيافهم في الأيام الأولى للثورة، منغمسين في الاحتجاجات المطلبية لأنها تمسهم. ومنذ اليوم الأوّل، انقسمت الأحزاب سريعاً بين مؤيد ومعارض. العونيون لم تعنهم لُقمة العيش، انكبوا سريعاً على الدفاع المُستميت عن ميشال عون و”هيلا هو”. هم اليوم يعتبرون أنفسهم انتصروا على الناس، لا بل يريدون الانتقام منهم، وما حدث في كسروان خير دليل على هذا النفس الاستقوائي. وهذا ما سيبقيهم حُكماً في الموقع المعادي لناس 17 تشرين.

انتظر سعد الحريري كثيراً قبل أن يستجيب للناس ويستقيل. قبل الاستقالة كان تياره خلفه، وحين استقال، لم يركض جمهوره إلى الناس، بل اعتبروا أن معركة الثورة هي فقط مع موقع رئاسة الحكومة (السني)، أي مع الحريري، حتى رد الفعل كان محدوداً، قطع طريق من هنا ومسيرة لبضع دراجات نارية من هناك، وكأن الشارع كان يعرف سلفاً أنه حتى ولو صار رئيسهم خارج الحكم، لا يُمكنهم أو لا يُريدهم أن يكونوا ضد السلطة. وهذا ما حصل، جمهور تيار المستقبل لا يقف في أي مكان اليوم، بل هو أقرب إلى السلطة بمعناها الواسع، وليس من باب حُكمهم على حكومة حسان دياب.

الثنائي الشيعي.. انسحاب سريع
ترك الثنائي الشيعي لمناصريهم أن يُوقدوا الثورة ومن ثم سريعاً هرولوا ليُلملموا ما اقترفوه،

تخبط الثُنائي كثيراً، بين بعضهم البعض ومع ناسهم، هناك من قال إن حزب الله يخوض معركة إنهاء نبيه بري، ثُم اتضح أن الأمر لا يعدو كونه توقعات/تأملات أو بأحسن الأحوال هي قراءة صحيحة وتراجع الحزب عنها سريعاً. سحب بري مناصريه قبل أن يعود ويستعملهم ضد الثورة، فيما حاول حزب الله أن يوازي بين السلطة والناس، وأن يستخدم هؤلاء المنتفضين لكي يوجه الثورة بالطريقة التي تناسبه، أي ضد رياض سلامة والثنائي سمير جعجع ووليد جنبلاط، إلا أنه لم يلق أذاناً صاغية. فخرج حسن نصرالله يدعو الناس للعودة إلى منازلهم، تحت عنوان إعطاء فرصة للحكومة وللإصلاح، أي الخروج من الشارع بأي ذريعة مقبولة لدى ناسه.

الشيوعي.. معركتان
من بقي في الشارع من مناصري الأحزاب؟

كُثر. أبرزهم الحزب الشيوعي الذي يعتبر نفسه جزءاً من الذي يحصل في الشارع. وهذا واقع. وكما يقول المطلعون على أجواء قيادة الحزب، “هم حاضرون في كل مكان، ويتواصلون مع الجميع، ويُكرسون كل جهدهم لتحقيق المطالب التي تتفاوت بين تنظم وآخر إلا أن الأساس بينهم (أي الشيوعي) وبين الآخرين موجود”. والشيوعي، الذي لم يترك يوماً لأي شيء أن يحيده عن تحالفه الاستراتيجي مع حزب الله، هو اليوم في مكان مُختلف، مع الناس، وفيه من يرى أن الحزب جزء من السلطة، والمعركة معه مشابهة للمعركة مع الأطياف الأخرى. في داخل أروقة الشيوعي الأمور ليست بالسهلة كما يظن البعض. محاولات خالد حدادة تحقيق اختراق وتقديمه كفرض طاعة لحزب الله تبوء (حتى الآن) بالفشل، وخطوط التواصل الرسمية مع حزب الله في ما يخص الثورة والموقف منها مقطوعة بالكامل. أكثر من ذلك، انفتح الحزب الشيوعي على باقي المجموعات لأول مرة، من دون قيد أو شرط، صار في الخندق نفسه مع الكتائب، مع اليمين، والتنسيق بينهم على قدم وساق.

الكتائب.. ثورة
الكتائب من جهتها، اصطفت منذ اليوم الأول مع الناس. واضح رئيسها سامي الجميل بخياراته، قال لـ”المدن” إن “مكانهم في الشارع، وهذا خيار قام به الحزب قبل أربع سنوات. وهو اليوم يكتمل بثورة 17 تشرين”. وأوساط الحزب اليوم كلها مُقتنعة بما يقوم به رئيسها، لا بل الجو العام الكتائبي تماماً مع الثورة، ومن دون تردد، كما يقولون. يُراهنون على الناس. وهو رهان لم يقم به إلا قلّة في هذا الوقت بالذات. والصورة التي يرسمها الكتائب اليوم، إذا ما استمروا بما يقومون به، فهي ستُغير كثيراً بمستقبل الحزب ككل، وهذا ما يدركه تماماً الجميل.

“القوات”.. الرئاسة والكنيسة
وضوح الشيوعي والكتائب لا ينطبق على “الاشتراكي” و”القوات” على سبيل المثال. بعد يومين على الثورة، خرج القواتيون من الحكومة، قدم وزراؤهم استقالاتهم، وأعلنوا أنهم يقفون مع الناس. هذا أيضاً ظهر في الشارع الذي شارك فيه مناصروه بكثافة منذ اليوم الأول. يقول متابعون: صحيح أن جل الديب كان فيها الكثير من المستقلين. ولكن لنكن واقعيين، من قام بالحمل الأكبر وأعطى الزخم للحراك هناك كان القوّات. هنا، تقول أوساطهم: نحن تركنا للناس أن تُعبر عن رأيها، وشارعنا سبقنا في رفض كُل ممارسات السلطة. ولكن لماذا تراجعت مشاركتكم اليوم؟ يقولون: الزخم خف لدى الجميع لعدة أسباب. ولكن، بالطبع ليس هناك أي قرار أو طلب من الناس أن يتركوا الشارع. هذا متروك لهم.

مقابل هذا الواقع، هناك من يقول إن “القوات” اليوم تراجعت عن المشاركة بالتظاهرات ليس فقط بسبب تراجع الزخم، بل أيضاً لأنها تنتظر وضوح الموقف الأميركي والخليجي فيما يخص حكومة حسان دياب، ولتبني على الشيء مقتضاه. كلام أشيع حين استقال وزراؤهم من الحكومة، وكان رد القوات واضح آنذاك كما الآن، أي أنهم “يقفون مع الناس ومطالبهم لا أكثر ولا أقل. وهذا ما انطلقوا وينطلقون منه في مقاربتهم للواقع الذي يعيشه اللبنانيون”. وبين هذا وذاك، هناك ما لا يخفى على أحد، حرص القوات على اتباع الكنيسة، وعلى عدم التعرض لرئيس الجمهورية لحسابات مسيحية، تُكبلهم كما كبلتهم في السابق.

“الاشتراكي”.. التحصين لا التغيير
أما الاشتراكي، الذي كان مناصروه متحمسون للنزول إلى الشارع، هو اليوم في موقف غير واضح تماماً. بعضهم صار عدو الثورة، وبعضهم الآخر يقف على حياد، وآخرون، قلة، ما زالوا منتفضين، ولكن تحولوا من منتفضين على السلطة إلى منتفضين على السلطة وعلى سلطة حزبهم. المتراجعون والمنسحبون من الشارع لديهم الكثير من التحفظات على ما يحصل. وأيضاً، الثوار لديهم الكثير من الاعتراضات على ممارسات الاشتراكي في مناطقه، إذ يقولون إنه “يريد أن تكون الناس ثائرة ولكن من دون أن تتعرض لهم أو للفاسدين منهم، تحت ذريعة أن وليد جنبلاط موقفه مع الناس، لكن في الواقع يبدو أنه لا يعرف كيف يتعامل قياديو حزبه مع الناس في بعض المناطق، وكيف يكون التهديد المبطن لكل من يختلف معهم”.

وفي هذا الإطار، يرد قيادي “اشتراكي” تراجع الناس عن التظاهر لأنهم “مثلهم مثل كل اللبنانيين، خفت حماستهم قليلاً في الآونة الأخيرة”، يقول: “نحن لم نمنع الناس من المشاركة في التظاهر وتركنا للناس حرية الخيار. لكن مع الأسف، ظهر مؤخراً في الحراك من يريد أن يستهدفنا فقط. وهذا ما جعلنا نتوجس من نوايا هؤلاء”، يقصد بهؤلاء، واصف حركة الذي ساجل وائل أبو فاعور مؤخراً، ونعمت بدر الدين وحزب سبعة، إضافة إلى من هاجم مصرف لبنان واعتدى على المصارف في شارع الحمرا، ويقصد به حزب الله. ويضيف: “لم نستغل الحراك ومناطقنا محصنة. ووليد جنبلاط كان أول من طرح انتخابات نيابية مبكرة وتشكيل حكومة اختصاصيين وسمّى نواف سلام، لأنه أفضل الموجود. كُل هذا كان للتعبير عن أن الموقف هو مع الناس ومطالبهم”.

هذا الواقع الذي يتحدث عنه القيادي، لا يُلغي أيضاً أن جنبلاط اليوم سيعطي فرصة لحكومة “أزلام النظام السوري”. وبالتالي، فإن شارعه حكماً صار خارج الثورة. ومن سيبقى، فهو بالتأكيد غير مرحب به في بيئة على ما يبدو صارت تضيق كثيراً على الاختلاف. و”التحصين” على ما يبدو هو في مواجهة التغيير. وهذا ما ينطبق أيضاً على تيار المردة، الذي أساساً لم يتحرك كثيراً، إلا لتسجيل النقاط على جبران باسيل. وهو اليوم جزء من السلطة وسيستقتل لبقائها كما سيفعل كُثر أو غالبية الأحزاب التقليدية.

الأحزاب الكُبرى اليوم أصبح واضحاً تموضعها. القدرة على مواكبة التغيير تبدو صعبة لدى معظمها. كل ما تملكه اليوم هو فعل الردة، أو التقوقع. ومن يحاول منها في المستقبل أن يُغيّر ولو قليلاً، سيصطدم بجمهوره أولاً. الجمهور الذي جعلوه منيعاً ضد كل ما فيه خيره. جمهور الحماية والاكتفاء بقليل ما يُعطى إليه، من الزعيم الكبير، أو “الزويعم”، والأخير أخطر بكثير. رفعت ثورة 17 تشرين التحدي. ضخت الوعي الوطني لدى كثيرين، وهنا، مقتل الأحزاب الطائفية، وما أكثرها.

المصدر المدن