قوبل مقتل العسكريين الثلاثة خلال عملية أمنية في منطقة المشرفة في الهرمل مساء الأحد، وإصابة 4 غيرهم بجروح، بعضها خطرة، بإحباط كبير على عدة مستويات في منطقة البقاع عموماً، وبعلبك الهرمل خصوصاً.
فالعملية، أولاً، ذهب ضحيتها ثلاثة من شباب منطقة بعلبك الهرمل. وهم الرقيب أول علي نايف إسماعيل من بلدة بريتال، وهو والد لطفلين. الرقيب أول أحمد كرم حيدر كرم من منطقة الكواخ في الهرمل، وهو والد لطفلين أيضاً. والجندي حسن محمد عز الدين من بلدة عرسال.. هؤلاء قتلوا، وفقاً للبيان الذي أصدرته مديرية التوجيه، إثر تعرض آلية عسكرية لكمين مسلح وإطلاق نار أثناء ملاحقة سيارة مسروقة، لتنتهي العملية بمقتل شخص من آل دندش، وتوقيف سائق السيارة، فيما لم تتحدث بيانات قيادات الجيش التي إكتفت بإحصاء ضحاياها، عن أي موقوف أساسي في عملية خسرت فيها ثلاثة من جنودها، بالإضافة الى إصابة غيرهم بجروح.
انحلال الأمن
ولكن، أبعد من مقتل أبناء المؤسسة العسكرية برصاص عصابات منطقة هم جزء من نسيجها الاجتماعي، يبدو منبع الإحباط في مكان آخر. فمنذ أسابيع، يئن البقاع من موجة سرقات سيارات وتشليح متفاقمة، طالت مختلف القرى والمدن البقاعية، وتركت انطباعاً بانحلال الأمن كلياً في هذه المنطقة، التي بات الكثيرون مقتنعين بأن مصيرها متروك بأيدي العصابات، تنفيذاً لأجندات سياسية، يجري من خلالها إخضاع “العشائر” وأفرادها، لملفات أمنية وقضائية، تبقيهم بإمرة الأحزاب التي تؤمن لها الغطاء الكافي.
لم تأت العملية الأخيرة لتغير من الانطباع السائد حول انحلال الأمن في هذه المنطقة، بل جاءت نتائجها لتفضح خللاً في موازين “استخدام القوة” وحتى “التخطيط الاستباقي”، ورجحانها لمصلحة العصابات، التي لم تتردد في فتح جبهتها على الدورية العسكرية، مخلفة عدداً كبير من الإصابات.
أين العزم العسكري؟
ما يفاقم من منسوب الإحباط أن أي تحرك لرد الاعتبار لم يظهر بشكل فوري من الجيش اللبناني، ولو على شكل بيان يؤكد عزم القيادة العسكرية على الاقتصاص من الفاعلين، كما تتوعد وتهدد “العشائر” عادة في ردها على مقتل أي من أفرادها برصاص الجيش، فتستدرج القيادات العسكرية إلى أسلوبها في التسوية العشائرية للملفات الأمنية.
ليس المقصود هنا تحريض المؤسسة العسكرية على الأسلوب الانتقامي في التعاطي مع قضية مقتل عسكرييها، وإنما الحفاظ على معنويات هذا الجيش، كعامل أساسي في فرض هيبته بهذه المنطقة، فلا تُتهم باستخدامها القوة المفرطة فقط بوجه “ثوار لبنان”، الذين بحراكاتهم يحاولون استرداد سلطة دولة منحلة، ومعها سلطة جيشها العادلة.
فمعظم من تعرضوا لعمليات سرقة سياراتهم، واختبروا مع العصابات قصة اقتيادهم إلى محافظة بعلبك، حيث يخلفون “خائفين” بعد تشليحهم ممتلكاتهم، لم يخرجوا ولو بقناعة بسيطة حول قدرة الأجهزة الأمنية على استعادة ممتلكاتهم. بل أبعد من ذلك يتحدث هؤلاء عن تواطؤ في بعض الأحيان مع أفراد العصابات لحمايتها.. وبالنسبة لهؤلاء كان التعويل لا يزال على المؤسسة العسكرية في تطبيقها للخطط الأمنية الاستباقية، التي يقولون أنها ما إن تثبت جدواها في الحد من هذه الظاهرة، حتى يؤدي تراجعها إلى فورة متجددة لعصابات تستفيد من الواقع السياسي المتأزم، لتسترسل في ارتكاباتها.
في كلمة ألقاها العميد جورج الخولي، خلال تمثيله وزيرة الدفاع بمأتم الرقيب إسماعيل في بلدته بريتال، قال “ظن القتلة أنهم في هذا العمل الغادر يستطيعون ترهيب الجيش وجنوده، ومواصلة جرائمهم المنظمة من أعمال السلب والتجارة والممنوعات”. ولكن أليس هذا هو واقع الحال في البقاع منذ مدة طويلة؟
البلاد المخطوفة
على صفحات التواصل الاجتماعي للبقاعيين، وحتى لأبناء بعلبك- الهرمل، حديث دائم عن حالة من الاستقواء الداخلي لأفراد العصابات، من خلال فرضهم الخوّات، وارتكاب عمليات تهريب وسرقة وتشليح، ولا حسيب عليهم ولا رقيب.. مع أن ارتكابات هؤلاء لم تعد تقتصر على خطف مواطن هنا، وسرقة سيارة هناك، إنما تأخذ البقاع كله رهينة، وتخلف انعكاسات اقتصادية واجتماعية خطيرة، في منطقة ترتفع فيها نسبة الفقر والبطالة، لتجعل من قادة العصابات ملاذاً يستفيد من انحلال الأخلاق والقيم الاجتماعية، بالتوازي مع انحلال الدولة وهيبتها.
من عرفوا الشهيد علي اسماعيل، ابن بلدة بريتال، المخطوفة سمعتها من قبل العصابات، تذكروه بحلمه في أن يدخل بكره السلك العسكري مثله تماما.. لكن من حق طفل علي كما غيره من أطفال عشرات شهداء الواجب، الذين سقطوا بهذه المنطقة، أن يطلبوا عدالة الاقتصاص بمن خطفوا سمعة بعلبك- الهرمل مع أمنها، حتى يتسنى لهؤلاء أن يكبروا مع حلم دولة قادرة على بسط سلطتها بالمساواة على كل الأراضي اللبنانية وعلى كل اللبنانيين.