على عكس واشنطن والدول الخليجية، لم تنفض فرنسا يدها من لبنان، حتى عندما بلغت الآثار الجانبية للتسوية الرئاسية أوجها، فشغّلت محركاتها لإعادة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري من الرياض في العام 2017 بفضل علاقاتها الوطيدة مع السعودية والإمارات، ولم تركب موجة تصنيف “حزب الله” جماعة إرهابية كغيرها من الدول الأوروبية، وضمنت حصتها النفطية عبر شركة “توتال”، ناهيك عن أنّها تواصل حماية عهد الرئيس ميشال عون بصفتها حاملة لراية حماية المسيحيين في الشرق- قبل أيام قال عون بعد حديث هاتفي مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون إنّ “عدداً من الدول ترغب في مساعدة لبنان.. في مقدّمتها فرنسا”.
وإذا كان الأميركيون والخليجيون فضّلوا اعتماد تجربة جديدة في لبنان تقضي بتركه يتخبط وسط الانهيار المالي-السياسي المستفحل، تمايز الفرنسيون عنهم، فجاءت مواقفهم مدروسة بعناية، مع التشديد الدائم على الإصلاحات. فبعد أقل من شهر على اندلاع انتفاضة 17 تشرين، أوفدت فرنسا مدير إدارة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كريستوف فارنو إلى بيروت، قبل أن يعود إلى باريس لبحث حصيلة اجتماعاته مع المسؤولين اللبنانين، إلى جانب كل من مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر والمندوبة البريطانية ستيفاني كاك. وبعدها، استضافت باريس مؤتمراً للمجموعة الدولية لدعم لبنان في 11 كانون الأول الذي ترأسه الأمين العام للخارجية الفرنسية السفير الفرنسي فرانسوا دولاتر ومنسق الأمم المتحدة للبنان يان كوبيش. وعن هذا الاجتماع، يقول وزير الخارجية جان إيف لودريان إنّ باريس وضعت خلاله على الطاولة ما الذي يمكن أن تفعله و”طلبنا من السلطات اللبنانية اتخاذ الإجراءات الضرورية المتناسبة مع خطورة الوضع. الكرة الآن في ملعب اللبنانيين. قمنا بصياغة طلبات بشأن الإصلاح ومكافحة الفساد لتكون المساعدات الدولية على الموعد”. توازياً، لم يستبعد ديبلوماسي زيارة ثانية لفارنو إلى بيروت.
وفي الوقت الراهن، يمكن الحديث عن مجموعة عوامل من شأنها أن تدفع باريس إلى التحرّك لبنانياً بما ينشل بيروت من جهة، ويضمن عودة باريس على الساحتيْن الإقليمية والدولية من جهة ثانية، أي الوصول إلى نتيجة تتحقق بموجبها مصلحة الجانبيْن. ولعلّ أهم هذه العوامل يتمثّل بتراجع الحضور الفرنسي في أفريقيا وأميركا وآسيا، وهو ما أدى إلى ضمور الحضور الفرنسي في الشرق الأوسط. وفي هذه المنطقة المشتعلة بالنزاعات، يبرز دور روسيا الساعية إلى توسيع رقعة نفوذها إمّا بالاحتراب أو التوافق مع الولايات المتحدة الأميركية التي تواصل إدارتها بقيادة الرئيس دونالد ترامب “ابتزاز” الأوروبيين. وفي وقت يبدو فيه الحضور الأميركي غير متأثّر، مع نجاح ترامب بتكبيل الأوروبيين، إن كان على صعيد التجارة (ورقة الرسوم الجمركية) والاتفاق النووي الإيراني (تفعيل آلية فض النزاع) وإعلان صفقة القرن خارج الشرعية الدولية، تشير التطورات إلى أنّ الأوروبيين سيتأثّرون حكماً، ومن المؤكد أنّ الوضع سيؤول إلى مزيد من التفاقم إذا ما فاز ترامب بولاية ثانية.
على مدى عقود، مثّل لبنان منصة فعالة لفرنسا للعبور إلى العالم العربي. وفي بيروت، ينظر المسؤولون اللبنانيون إلى فرنسا باعتبارها الوحيدة القادرة على الحوار مع الأطراف كافةً انطلاقاً من رئيس الجمهورية ميشال عون و”التيار الوطني الحر” وصولاً إلى “حزب الله” الذي يلتقي المسؤولين الفرنسيين دورياً، أمّا إقليمياً، فتعُتبر فرنسا الوحيدة القادرة على مخاطبة اللاعبين المؤثرين والتأثير عليهم من إيران وصولاً إلى السعودية.
ونظراً إلى أنّ فرملة الانهيار الحاصل في لبنان تبدو ضرورية في أقرب وقت وسط الجهود التي تمارسها الولايات المتحدة عبر فرض عقوبات جديدة على “حزب الله” والضغوط لقطع شريان المساعدات عن لبنان، حيث يتوقع البعض بأن تبوء جولة دياب الخارجية الأولى بالفشل، تشير هذه المعطيات إلى أنّ فرنسا قادرة على إطلاق مبادرات على هذا المستوى.
فكما فعلت في سان كلو في العام 2007، يمكن لفرنسا أن تلعب دور الميّسر وعقد جلسات حوار بين كل الأفرقاء السياسيين حول مستقبل لبنان وعقده السياسي وطبيعة اقتصاده. وإذا ما نجحت في فرنسا على هذا الصعيد، فسيصبح دخولها إلى سوريا والعراق وإيران أسهل، ناهيك عن أنّ علاقتها بمصر والخليج ستتعزز. وليس لبلدٍ من علاقات وروابط مع لبنان أكثر من فرنسا، فهل تندفع للعب هذا الدور؟