ألوان لبنان الديموقراطي ولون الطغمة الحاكمة

لبنان يصنع قوس قزحه الديموقراطي اليوم في الشارع

13 فبراير 2020
ألوان لبنان الديموقراطي ولون الطغمة الحاكمة
أحمد جابر
أحمد جابر

ثقة مضمونة
نالت حكومة حسان دياب الثقة من المجلس النيابي، وما كان الشك ليخالط ذهن المتحالفين والمتناكفين في النظام أن الثقة ستحجب عنها. وحده الشارع، حيث الآلاف من المعترضين، كان مدركاً ما قد تذهب إليه تشكيلة الحاكمين المتحكِّمين، فحاول أن يعطِّل النصاب بإرادته الطموحة، تعطيلاً لو حصل، كان سيدرجه أبناء الحركة الشعبية في سيرة مراكمة نقاط وعوامل القوّة لديهم، حتى يتسنى لهم ذات نهاية صراعية طويلة، الإطاحة بهذه النسخة من النظام الطائفي اللبناني، الذي حكم فتبلَّد فتأبَّد، والذي اهتزّ في الماضي، ويهتزُّ في الحاضر، فتتداعى لتثبيته ومنع سقوطه، كل الأطياف المستفيدة من مغانمه، وكل القوى التي انتقلت من هامش الكيان وهيئات إدارته، إلى متن المشاركة في صلب توازناته، وفي تقرير مضامين سياساته.

إنزياح الحريرية السياسية
لبَّت الحريرية “الوارثة” نداء الثقة بالحضور، وسجَّلت بذلك نقطة انتقال إضافية على طريق تدهور وضعيتها العامة. هذا الأداء الذي تقوم به نسخة “السعدية” الحريرية، لا يشبه كثيراً أداء حريرية الأب “الرفيق”، لجهة قبول الإقصاء عن موقع الحكم وهو محتفظ بعناصر من الثبات في موقع القوة، والصراع من أجل إعادة امتلاك نقاط ومواقع قوة جديدة، ثم العودة إلى ما كان عليه بدفعٍ أشد وبزخم شعبي وسياسي أوسع وأشمل. ما أقدم عليه سعد الحريري يخالف تلك السيرة، ويقدم إنزياحاً من موقع القوة إلى مواقع الضعف، افتتحه الحريري “الجديد” منذ اتفاق الدوحة وحتى تاريخه. هذا الانزياح جعل سعد الحريري “زعيماً” مذهبياً غير عابر لحدود طائفته، كما حاول “الوالد”، وأعاد تصنيفه قوياً بين أقوياء مذهبه، وأخذ بيده من وَهْن إلى وَهْن، حتى جعل خروجه من بنية توازنات التشكيلية الكيانية الأصلية أمراً عادياً، لا تهتز له صيغة، ولا تغضب لغضْبته شوارع التوازن المختلطة.

لقد استكمل سعد الحريري مساره التراجعي بخطوة تراجع إضافية، عندما لبّى الدعوة إلى جلسة الثقة بالحكومة، أما التبريرات التي أدلى بها تيار المستقبل ومحبذوه ومريدوه، فلا تقدم أكثر من شرح توضيحي آخر، يدل على الموقع الحقيقي للحريرية السياسية، أي إلى صفتها الأصلية كمكون أساسي من النظام السياسي المذهبي الذي جاء به اتفاق الطائف، هذا الذي وضع حداً لحرب اللبنانيين الأهلية.

ختام الجنبلاطية الكمالية
وضع وليد جنبلاط نقطة ختام لجنبلاطية كمال جنبلاط، جاء ذلك بعد أن كتب “الوليد” صيغته الجديدة للجنبلاطية، منذ حرب الجبل التي اندلعت بعد الاجتياح الصهيوني للأرض اللبنانية، وفي مواجهة صيغة القهر التي حملتها نسخة القوات اللبنانية في تلك الحقبة، وحاولت فرضها على أرض الإشكالية التاريخية في الجبل، وعلى إرادة سكانها. منذ تلك اللحظة السياسية، تحوّل وليد جنبلاط تباعاً، ومع تحوّله المتدرج الذي كان يكتب سطوره الكثيرة، كان يمحو في الوقت ذاته، السطور الكثيرة التي كتبها المعلم كمال جنبلاط. نفتح هنا قوسين استطراديين للقول: إن كمال جنبلاط سار تصاعدياً من بيئته المذهبية الأصلية، إلى رحاب البيئات اللبنانية العامة، وهو أدرك جيداً حقيقة الوزن الديموغرافي لبيئته الخاصة، فحصَّن موقعها بالعبور إلى القضايا التي تحتشد ضمنها قضايا ومصالح بيئات شعبية متنوعة ومختلطة، وإذ فعل “المعلم” ذلك، أتيح له أن ينتقل من المحلي اللبناني إلى القومي العربي، إلى الأممي الإنساني، فكان فريداً في انتقاله، وكان ملهماً في تفاعله وفي استجابته لقضايا الحركة الشعبية اللبنانية، التي أخذت منه، وأضافت إليه في الوقت ذاته، ولذلك أمكن القول، إن الحركة الشعبية قد صنعت كمال جنبلاط بمقدار ما صنعها، وأنه كان من نتاجها بالتناسب مع ما أضاف إليها من فرص وعناصر الإنتاج.

بالقياس إلى المؤسس، سارت “الوليدية” الجنبلاطية على خط بياني معاكس، فلقد انتقل الوارث من العام إلى الخاص، انتقالاً متعرجاً ومتدرجاً، حتى استقر في موقع “الترويكا زائد واحد” الذي أدار نظام الطائف، وأطاح بتوازنات نصّه، وسوَّغ للهيمنة النظامية السورية.

في جلسة الثقة الأخيرة، كانت الترويكا الجديدة، مع تبدل إسمين، وكان الزائد واحد هو ذاته: وليد جنبلاط، الذي يتيح له موقعه الكياني، السياسي والديمغرافي أن يقول دائماً، إنه “الرئيس” الرابع الذي لا يمكن تجاهله من قبل الرؤساء الرسميين الثلاثة، هذا التجاهل ما زال يرفضه واحد حتى الآن من قبل الرؤساء، هو نبيه بري، الذي لم يرفض له الوليد عدداً من الدعوات السياسية، فكان أن استجاب لطلبه في الجلسة المشهودة الأخيرة.

ألوان ولون القوات اللبنانية
دفعاً للتفسير الظنّي، لا يُقصد باللون العودة إلى فتح السيرة الأصلية للقوات اللبنانية، لأن هذا الأمر منوط بمراجعة سياسية تطال كل أطراف الصراع اللبناني، خاصة أولئك الذين خاضوا الحرب الأهلية الداخلية، وتبادلوا التهم والشتائم السياسية، قبلها وخلالها، وما بعد صمت أصوات الطلقات، مما نسمع بعضاً من شظاياه حتى يومنا الخلافي السياسي الراهن. إذن، وبعيداً من التاريخ، نكتفي بالإشارة إلى أن اللون المقصود هو لون ثبات القوات اللبنانية في موقع الانتماء إلى التشكيلة السياسية الحالية، والانتماء الثابت إلى النظام الطائفي اللبناني، بحيث تبدو السياسات المرنة والمتحركة التي تعتمدها القوات اللبنانية تلويناً آنياً متغيراً تقتضيه المتابعة اليومية السياسية الظرفية، لكن هذا التلوين لا يطغى على اللون النظامي والانتظامي الأصلي للقوات، ولا يعدل حقيقة منبتها وتمثيلها الطائفي والمذهبي، وطموحها إلى احتكار النطق باسم بيئتها، أو الإمساك بالحيز الأكبر من مسؤولية التعبير عنها، ولعل هذا واحد من عناصر تنافسها المحموم مع العونية السياسية.

حضور نواب كتلة القوات اللبنانية إلى برلمان “الثقة”، كان في اتجاه ما توافقت عليه القوات مع آخرين، من حفاظ على المؤسسات.. وحمل صوت الشارع إلى الداخل.. وتسجيل الاعتراض عبر القنوات الرسمية.. يسهل القول أن الاعتراض بالمقاطعة هو “ديموقراطية” أخرى مارستها العونية وحزب الله وحركة أمل ذات يوم.. ولم تنل الممارسة تلك من المؤسسات، وكان الحريُّ بأصحاب هذا التبرير الاستناد إلى صوت ديموقراطي صارخ في الشارع، للجهر بصوت رفض بجعل الديموقراطية مجتزأة، ومحتكرة من قبل ممثلين فقدوا نصف تمثيلهم الشعبي، بعد أن رفض سياساتهم ما يربو على نصف عدد الشعب اللبناني. لم تستطع القوات اللبنانية أن تكون “شعبية” أكثر، وهي ربما تستطيع أن تكون جزءاً من شعبوية أوسع يمارسها عدد من الأحزاب السياسية النظامية الأخرى، التي تدعي “وصلاً” بصوت الشارع، فتقول زوراً، أنها تتبنى مطالبه.

قوس قزح الشارع
في مواجهة وحدة اللون الرسمي الذي يحاول بعض أقطابه تلويناً خاصاً مقصوداً لمصالحه، انتفض الشارع الشعبي على هيئة حركة شعبية متعددة الألوان، ومتكاملة التناسق، ومنسجمة اللوحة المتنوعة الأطياف. هذه المواجهة تتضمن حقيقتين متصارعتين، حقيقة المصالح التي يهتف من أجلها المحكومون، وحقيقة المصالح السلطوية الضيقة التي يتحلق حولها الحاكمون. السيرة التاريخية لهاتين الحقيقتين سيرة طويلة ومتدرجة، يلجأ فيها كل من أصحاب الموقعين إلى مختلف وسائل الكفاح من جهة الشعب، وإلى كل وسائل التضليل والقمع من جهة السلطة. وعْي المسألة الوطنية الشعبية اللبنانية اليوم على هذا الوجه الصراعي، يبلور الهدف ويجعله واضحاً وذا طابع مستقبلي، وحول الهدف تجتمع قوى اجتماعية في صيغة تنسيقية مرنة، وفي صيغة جبهوية رحبة، وفي صيغ تحالف وائتلاف متنوعة، أي أن قوس قزح الألوان يظل صيغة مثلى لحركة شعبية متعددة، تتطور وتتبلور تباعاً، فتبلور في سياقها هذا صيغها التنظيمية، وتطور أساليب ووسائل عملها الكفاحية. وإذ تسلك الحركة الشعبية هذا السبيل، فإنها تقدم صيغة الديموقراطية الاجتماعية اللبنانية الجديدة، وتقدم صيغة النظام اللبناني الذي يحفظ “أسس الكيانية اللبنانية”، والذي يعيد إلى لبنان وجه الرسالة الحضارية الإنسانية، تلك الرسالة التي لطَّخها الطائفيون بحبر المذهبيات والعصبيات، وأناطوا إلقاء خطبها بحناجر أهل التناحر والنزاعات، فجعلوا سيرة كل احتمال تغيير، سيرة لحروب أهلية متجددة.

لبنان يصنع قوس قزحه الديموقراطي اليوم في الشارع، بعيداً من أبناء طغمة “اللون الواحد”، الطغمة التي تستخدم في تزويرها السياسي كل الألوان.

المصدر المدن