لا بد من “الحريري” ولو طال السفر. العبارة ثابتة حتّى لدى خصوم سعد الحريري. الاستثناء الوحيد هو رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي حقق ما أراد بالتسوية. ولا مشكلة لديه بإحراق المراكب. حسابات جبران باسيل ستكون مختلفة مستقبلاً، أيضاً، مهما طال البعد أو الخصومة.
العودة الصعبة
اللعبة التي كرّسها رئيس تيار المستقبل أنه حاجة للجميع. لم يصل عون إلى الرئاسة من دونه، وأي صاحب طموح سيكون بحاجة إليه في هذه المرحلة بالحدّ الأدنى. حزب الله عمّق العلاقة بالرجل الذي لا يخجل من اعتبار أن تعاون الثنائي الشيعي معه كان استثنائياً. حتى وليد جنبلاط وسمير جعجع، وفي ظل حالة التوأمة التي عاشها سعد مع جبران، كانا بحاجة إليه، وحريصين على عدم إحراق المراكب معه.
انطبع الحريري الإبن بالحياة السياسية اللبنانية بالارتكاز على وجدانية الناس والسياسيين. ثمة خجل لدى الجميع، وخصوصاً داخل الطائفة السنّية، من تجاوز الحريري أو الذهاب إلى مواجهة معه. أي انتقاد يوجه إليه أو إلى ممارسته السياسية، يتخذ سريعاً طابعاً شخصياً سريع العطب. محطات كثيرة، مرّ فيها ظنّ كثيرون أنه انتهى، أو “قُطعت له وان واي تيكيت”. لكنه كان يعود. وحالياً، يستعجل كثر من خصومه إعلان “نهايته السياسية”. وهي حتماً لا يريدها حزب الله، ولا نبيه بري، ولا وليد جنبلاط، ولا سليمان فرنجية، ولا القوات اللبنانية، ولا غيرهم. من هنا تعود العبارة التي يجمع عليها الجميع “لا بد منه ولو طال السفر”.
نموذج التناقضات
لطالما حاول أن لا يكون نفسه، وعندما يكونها يتغلّب عليه طابع الشخصانية، فيبتعد عن السياسة إلى ردود فعل إنفعالية. حاول أن يكون والده بطرح مسألة الدولة، وبحث عن إمكانية تحوله إلى “أب السنة” باستنساخ تجربة الثنائي الشيعي، ومراس برّي في مؤسسات الدولة وتوظيفاتها. انتهج براغماتية وليد جنبلاط، واتسمت به بعض من طبائع عون وباسيل، وفي فترة استقالته الأخيرة، أراد أن يبقى من مكونات السلطة، ويستند في الوقت نفسه على الانتفاضة. فتكوّن في السنوات الثلاث الأخيرة، نموذج يحوي الكثير من التناقضات، التي وصفها بنفسه ذات يوم أن نسخة 2018 غير نسخة 2005.
في الذكرى الخامسة عشرة على اغتيال والده، يقف مرّة جديدة بينه وبين نفسه. يحضّر ما سيخرج به إلى جمهوره، وقد يصح وصفه بالإنقلاب على ما كان عليه منذ العام 2016. سيركز هجومه على التيار الوطني الحرّ ورئيس الجمهورية. ما قد يعرّضه لحملة مضادة، وانتقادات من داخل بيئته أيضاً، لأنه تأخر عن البوح، ولم يفعل إلا بعدما “انكسرت الجرة” وأصبح خارج الحكم. في يقين الرجل أنه سيعود، عاجلاً أم آجلاً.
الانقلاب على النفس
هو يقول إن الاهتمام الأساسي سيتركز على التيار وبيئته الشعبية. ما يعنيه ذلك أنه سيبدأ مبكراً بالتحضير للانتخابات النيابية، وسيحاول تكرار تجربة والده بين العام 1998 وانتخابات العام 2000. لكن ذلك، يحتاج إلى إعادة قراءة نقدية واسعة وشاملة من قبله، في تجديد بنية التيار، ووضع أسس سياسية واضحة وشفافة، تعتمد الوضوح في مخاطبة مناصريه، الذين أصابهم الدوار والضياع بغياب مركزية القرار السياسي، فتفاجأوا أكثر من مرّة بخطواته غير المتوقعة، إلى أن أصيب معهم بمقتل.
وأول ما يجب أن يقدم عليه، هو الانقلاب على جملة مفتاحية أطلقها السنة الماضية في ذكرى والده، أنه لم يعد مهتماً بالسياسة بل بالاقتصاد. كانت تلك الجملة مخصصة للالتفاف على كل الانتقادات السياسية التي تطاوله، بسبب عدم اتخاذه أي موقف سياسي حقيقي، أو كانت وحسب جملة تبريرية للتنازلات التي قدّمها وخسّرته الكثير.
ينتظر جمهور سعد الحريري مواقف صريحة وإجراءات أكثر صراحة وصرامة في محيطه. هم الذين يشعرون باليأس من بعض قراراته وإجراءاته، التي أبعدت صقوره عنه. يريدونه متماهياً أكثر معهم، وحتى مع نبض التحركات الشعبية التي شهدتها بيروت منذ 17 تشرين، كي لا يكرر الفشل ذاته الذي قتل انتفاضة 2005.
التحرر من “التسوية”
ربما، أقسى ما عاناه الحريري، أن يلزم “جمهورية من الحقد” يُراد لها أن تستمر، بالضرب على وتر مذهبي أو صراع على الصلاحيات. هو الذي دفع كل الأثمان، ليتخلص من حقد مديد عليه وعلى الحريرية ولم ينجح. بل أريد له أن يغرق فيه أيضاً، مع حلفاء وأصدقاء، أبعدهم وابتعد عنهم. نقم عليهم لأنهم عارضوا خياراته، وقدموا طروحات يوم كان في التسوية، يعود هو ليطرحها هي ذاتها بعد خروجه منها. الآن، تحرر من التسوية وشروطها. وهذا يوجب التحرر من “أفكار” مسبقة تمكنت منه سابقاً في علاقته مع حلفاء قدامى. لا يمكنه الاكتفاء بشن هجوم على التيار الوطني الحرّ، الذي سيستدعي شداً للعصب الطائفي لدى هذا التيار.
ما عليه فعله، هو طرح مشروع سياسي متكامل للمرحلة المقبلة، بعد مراجعة قاسية قال إنه سيفعلها، في شخصه وتياره، والخروج من قناعة تملّكته طويلاً بأن تنازلاته تحميه وتحمي موقعه. فلا يمكن لأحد أن يخسر نفسه وجمهوره وحلفاءه ويربح الآخرين والعالم.