فجرت الأزمة المالية المترافقة مع الثورة اللبنانية نقاشات حول مستقبل لبنان ومصير صيغته. ففي مواجهة المشهد الجامع الذي قدّمه اللبنانيون المنتفضون، بإرادة طيّ صفحة الحرب الأهلية وما أنتجته، وباجماعهم على مطلب بناء الدولة على أساس المواطنة.. تدور نقاشات لدى شرائح لبنانية أخرى حول جدوى استمرار صيغة لبنان الحالية، والتفكير بصيغة جديدة تقوم على “اللامركزية الموسعة”. تستدعي هذه الطروحات ذاكرة حقبات سابقة ارتفعت فيها عناوين توحي بالتقسيم أو بالفدرالية. وهذا ما كان رئيس التيار الوطني الحرّ، جبران باسيل، قد عبّر عنه بتحدثه في المجلس النيابي عن تصوّر جديد لديه يقوم على “اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة”.
الصيغ البديلة
يتركز النقاش لدى بعض القوى المسيحية، على الحنين إلى زمن المارونية السياسية. فيعدد مزاياها الاقتصادية والمالية والنهضوية وفضائلها على الكيان اللبناني، وينتقد المرحلة التي جاءت بعدها وأدت إلى ضموره وانهياره ادارياً وسياسياً واقتصادياً. لكن أيضاً ثمة داخل البيئة المسيحية من ينتقد هذه النظرة، ويعتبر أن المسيحيين قد صاغوا بين العام 1920 وصولاً إلى 1943 أفضل نموذج لدولة في الشرق الأوسط، تتمتع بالحرية والديموقراطية والتعددية. ولكنهم فشلوا في حسن إدارته. عملوا منذ اليوم الأول على تقسيمه، أو تهميش الفئات الأخرى فيه، واستلحاقها فقط من دون إقامة أي اعتبار أو وزن لها. وتركز الاهتمام في تلك الحقبة، في مناطق جبل لبنان وبيروت، مقابل تهميش المناطق الأخرى، كالجنوب والبقاع والشمال.
لم يحافظ المسيحيون على الصيغة، أمعنوا في شرذمتها وفق ما تقول النظرة المسيحية المعتدلة، واستعْدوا المسلمين أو أرادوهم موظفين لديهم، فوضعوا هذا البلد على خط زلازل أدى إلى تفجرات وتفسخات متعددة، إلى أن وصل إلى الانهيار في الحرب الأهلية. طبعاً النظرة المعارضة لهذه الخلاصة، تحمّل المسلمين والعرب والفلسطينيين وغيرهم المسؤولية.
النقاش الدائر اليوم في بعض الكواليس واللقاءات، توصّل إلى قناعة أن صيغة لبنان المعروفة قد انتهت. وهناك بحث عن صيغ بديلة، تستمد إلهامها من “تصغير” الكيانات في الدول العربية المحيطة، كما هو الحال بالنسبة إلى سوريا والعراق، والتي تتلاقى مع نزعات يمينية غربية وأميركية. من هنا يأتي مجدداً طرح الفدرالية أو اللامركزية الموسعة. وهي ضمنياً تعني الفدرالية. فمزحة تعليم الولايات المتحدة الأميركية كيفية الإدارة المالية من دون موازنة، استهوت البعض بشكل معاكس، إلى حدّ طرح فكرة “تقليد” نموذج الولايات الأميركية في لبنان، على أساس مناطقي أو طائفي.
ترى بعض الجهات المسيحية أنه في العام 1992 كان لبنان يرزح تحت دين قيمته ملياراً و600 مليون دولار. بعد ما تسلم المسلمون السلطة التشريعية والتنفيذية، أصبحت قيمة الدين 100 مليار دولار، وبلا أي خدمات أو كهرباء مثلاً. هم ينظرون إلى العمران والبنيان الذي حققه رفيق الحريري، لكنهم يعتبرون أن الاهتمام كان محصوراً في بيروت الإدارية أو بيروت الكبرى، وبعض المناطق، بينما المناطق المسيحية لم تحظ بهذه المشاريع والاهتمامات. إذ يشيرون إلى افتقاد جرود جبيل وكسروان والبترون وبشري إلى الحد الأدنى من البنى التحتية، علماً أنها المناطق الأكبر من حيث احتوائها المؤسسات الصناعية والسياحية.
الانتفاع من الضرائب
يعتبر المسيحيون أنهم دخلوا إلى الطائف من بوابة اللامركزية الإدارية لكنها لم تطبق. منذ العام 1943 إلى اليوم ينظرون إلى أنفسهم بأنهم يدفعون الضرائب الكبرى فقط، بمعنى أن ثلث عدد السكان يلتزم بدفع الضرائب والرسوم، بينما في مناطق أخرى لا يدفعون ما يتوجب عليهم إلى الدولة المركزية. ويعتبرون أنه لا يمكنهم دفع ضرائب لبنان لوحدهم. وحسب بعض الإحصاءات التي يتم التداول بها داخل جلسات وحلقات النقاش هذه، أنه في البترون مثلاً يتم دفع 97 بالمئة من فواتير الكهرباء، وكذلك المياه والهاتف، بالإضافة إلى الضرائب. مقابل أن المناطق الأخرى ذات الأكثرية المسلمة في الضاحية، الجنوب، البقاع وعكار، لا يتجاوز دفع الضرائب فيها الـ 30 بالمئة، وفي بعض المناطق لا تصل إلى 15 بالمئة.
ينظرون إلى المسلمين بأنهم استباحوا الدولة بكامل مؤسساتها منذ العام 1990، السياسية والإدارية، وخصوصاً المالية والضريبية، بينما دورهم هم يقتصر على تسديد الضرائب، التي ساهمت في تنمية المناطق الأخرى خارج مناطقهم التي تحتاج إلى تنمية هائلة. في اللامركزية الإدارية، حسب هذه الدوائر، سيبقى نصف قيمة المدفوعات في نطاق اللامركزية، مقابل قسم منها يذهب إلى المالية المركزية. أما الواقع اليوم فإنهم يحصلون على أقل من الربع مقابل ما يدفعونه.
أفكار ليست بائدة
يعمل التيار الوطني الحرّ على تعزيز هذه الأفكار وتنميتها، مقابل عدم انزعاج حزب القوات اللبنانية منها. لقد فتحت الأزمة المالية والمعيشية التي يعيشها لبنان هذا النقاش، خصوصاً أن لا وجود لقدرة ذاتية لا لدى الكنيسة ولا لدى أي جهة أخرى لتأمين المسلتزمات الأساسية للتكافل والتعاضد الاجتماعي، فالمصارف وضعت يدها على كل شيء.
ويخلص النقاش إلى أن لبنان انتهى، من دون توفّر جواب عن “ماذا بعد؟”. لكن الأكيد أن النزعة شبه الانفصالية، والميل إلى التفرقة الطائفية ونعراتها، ستعيد إحياء أفكار بائدة، ظنّ اللبنانيون أنها انتهت.