برفقة دراجة من الضاحية: “أكيد في أوادم مثلك بالثورة”

في الضاحية "بعض" آخر، يشعر بالذلّ اللبناني المشترك

17 فبراير 2020
الأرشيف بيروت نيوز
الأرشيف بيروت نيوز
نادر فوز  صحافي لبناني
نادر فوز صحافي لبناني

يوم الثلاثاء الماضي، حين منح البرلمان الفاقد للتمثيل الشرعي ثقةً غير شرعية للحكومة غير الشعبية، في جلسة غير شرعية، كانت القوى الأمنية تستكمل القمع عبر الهجوم على المتظاهرين في ساحة الشهداء.

عند تقاطع الصيفي، وصل شاب على دراجة نارية صغيرة من صوب شارل حلو. توقّف ليشاهد قنابل الغاز المسيل للدموع تتساقط على الساحة. رفع سترته على وجهه بعد أن أرخى رجليه على الأرض وأطفأ محرّكه. كأنه والدراجة جسد واحد. هي جزء منه، امتداد ليده ورجله. تأتمر ما يقول وتجتاح ما يبغى. قد تكون أغلى ما يملك، ولو أنها لا تساوي إلا بضعة ورقات نقدية. توقّف وكأنه وجد ما يتسلّى به في واقع البطالة والملل. اشتدّ رمي المسيل فهمّ بالرحيل. استوقفته بكل بساطة وسألت عن وجهته، فردّ بـ”جفاصة” مطلقة إنّ مقصده الضاحية الجنوبية. كأننا في تحدّي، في كباش لا بد ينتهي بغالب ومغلوب!

حسابات ثواني
قد تكون هذه الدراجة جزءاً من آلة حرب الشبيحة على الثورة، والهجوم على ساحات الثورة قبل شهرين. آلة من بين آلات غزت الخيام والرينغ واعتدت على الناس. أداة من موجة “شيعة شيعة” التي ضربت بيروت ونهشت بعضاً من زخم ثورتها. هل الدراجة هنا للرصد؟ للاستطلاع؟ لاستكمال مشهد الاعتداء الصباحي على الثوار عند زقاق البلاط ومدخل الإسكوا؟ ألا تشبع هذه الدراجات تشبيحاً وبلطجة؟ همّ بالانطلاق، فاستوقفته مجدداً. بعد ساعات سبع من المشي والوقوف المتكررين، والعبث مع القوى الأمنية وعناصرها، طلبت منه إيصالي إلى بشارة الخوري على الدراجة نفسها. ترّدد، ثم انطلق بي، في حين همّ الأصحاب بإشارات “طّمّنا بس توصل”. هل أنسجم مع المشهد وأصرخ “شيعة شيعة”؟ هل هو من هؤلاء المعتدين أساساً؟

كيس دواء
عند الانطلاق، وكأنه أحس بكل ما يدور في رأسي، أشار إلى كيس أبيض معلّق على مقبض الدراجة وقال إنه كان في المستشفى الحكومي في الكرنتينا، يجلب الدواء لأبيه وابنه. انسحب هتاف “شيعة شيعة” من رأسي. سألته بتلقائية عن الذل الذي عاشه للاستحصال على الدواء، “اتركها ع الله يا خيّي” ردّ. وكأنّ السؤال نكأ ما فيه من شكوى من الحال وسوئها. فلم يترك شتيمة إلا وكالها على السياسيين والحكومة والبرلمان وكل من في السلطة. والسؤال الطبيعي هنا: لماذا لا تشارك في التحركات؟ لأنّ قسماً من الثوار لا يشبهه، لا في التفكير ولا في الملبس ولا في الحياة. وقسم آخر يرفضه في السياسة، وكل ذلك مع شتم “السيّد” والتعرّض لـ”الرئيس بري”.

حوار مفتوح
لم يشتم أحد أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، في ساحات الاعتصام. هو يعلم ذلك. أما التعرّض لبري فيمكن السماح به. حزب الله سمح به أساساً في الأيام الأولى للثورة، فأُحرقت صوره ومعها بعض مكاتب ومنازل نواب من كتلته، وتصدّر هتاف “حرامي حرامي، نبيه بري حرامي” الساحات. كل هذا ولا جواب إلا “أكيد في أوادم مثلك بالثورة”، كما قال، مع التحفظ الكامل على صفة “أوادم” في المعنى السياسي طبعاً. وانتهى الحوار بدعوته إلى المشاركة في الاعتصامات، من أجل ابنه المريض فقط. لكن لا جواب أيضاً.

تساؤلات
كما أنه لا أجوبة على أسئلة وتساؤلات عديدة عن واقع البذخ لدى مسؤولين في أحزاب تدّعي الدفاع عن المحرومين والفقراء والمظلومين. عن مواكب وسيارات وشقق وسياحة وسفر. عن دولار أخضر يصل إلى موظفين في مؤسسات هؤلاء المسؤولين، فيما الباقون محرومون حتى من الوظيفة. عن مغالاة في استعراض القوة أينما كان وكيفما كان، في الأمن والسياسة والمال والأكل والشراب. في حصار مضايا، بعضهم تصوّر مع برّادات الطعام. في الأزمة المالية، بعضهم غالى في الدولار بين يديه. في الأزمة الأمنية، التقط بعضهم صور أسلحتهم وعتادهم. كل هذا “بعض” لكن في الضاحية “بعض” آخر، يشعر بالذلّ اللبناني المشترك في المشفى والمصرف والبطالة وربطة الخبز. “بعض” آخر جوعان لكن ساكت. موجوع لكن صابر. مذلول لكن متماسك. ومقابل كل ذلك دعوة لمقاطعة البضائع الأميركية.

المعركة في ميل، والواقع في ميل آخر. لكن متى ينفجر كل ذلك؟ لا جواب أيضاً. غادرت الدراجة بشارة الخوري وراحت إلى الضاحية حيث تساؤلات كثيرة تبحث عن أجوبة… أو لا بد أن تبحث عن أجوبة لها ولو بعد حين.

المصدر المدن