كلنا للعماد.. قائد للبلاد. عمل وضيع لم يجد من يتبنّاه، ولو أنّ رسائله السياسية واضحة. نشيد “لقيط” صدر يوم عيد ميلاد رئيس الجمهورية، فيه تحوير للنشيد الوطني اللبناني يقول إن فخامة الرئيس العماد ميشال عون خالدٌ منقذٌ للعباد. ثائر، ساهر (فعلاً؟)، رائد، عادل وكل ما في صفات التبجيل على الوزن نفسه.
الأرز مثله لا يزول. وأرز لبنان، وفق الأسطورة اللبنانية، مبارك من الله. والقائد مُرسلٌ، قصره مزار. ليس مباركاً فقط، بل رسول يستكمل السِير الإلهية والنبوية.
عام 2020، بعد عقود من التطوّر الاجتماعي البشري، بعد ربيع عربي حطّم تماثيل الطغاة، وفي صلب ثورة شعبية مستمرة كسرت كل الرموز السياسية، يأتي الردّ في تعظيم زعيم وخلوده. كأنّ حافظ الأسد هنا. لم يتركنا، لم يمت، جيشه لم يرحل ولا سطوته انتهت لا في لبنان ولا سوريا. كأنّ آل كيم هنا. ليسوا بشراً بل آلهة. لا ينامون ولا يتبرّزون، شعبهم محكوم بهم حتى بعد أن تقف الدنيا. هذا ما يقوله النشيد بنسخته المحرّفة، بتخلّفه ورجعيّته.
نشيد هزلي، يستكمل من خلاله بعض من في التيار الوطني الحر وأنصاره مسلسل الهزل المستمرّ. بعد كل مهزلة يخوضونها، في العنصرية حيناً والطائفية حيناً آخر، يفاجئونا بأخرى أشدّ وقعاً. كأنّ لا قعر لمهازلهم، ولا حدود لها شكلاً ومضموناً، في الزمن والجغرافيا.
“يسقط العماد”
ورداً على النشيد الوطني العوني، صدر أمس نشيد مضاد بدأ بـ”كلنا للوطن” وانتهى بـ”سوف يسقط العماد حامياً للفساد، صامدون هنا لن نترك البلاد، فليسقط العماد رأفة بالعباد”. تسجيله بدائي، الضجيج يحكم خلفية أصوات الكورس غير المتناغم. “كلنا للعماد” في مواجهة “يسقط العماد”.
الأول، النشيد العوني، متماسك في نظافة تسجيله وكورسه المنضبط. عمل مبرمج تقنياً وفي موعد محددّ. بصمات حرّيفة وضعته، وعملت على إعداد نشيد كامل كلاماً ومقاطع. الثاني، رد تلقائي وطبيعي معمول على عجل من مقطع واحد لكن معبّر وصائب في المضمون السياسي. لا تبجيل فيه ولا صور واستعارات، بل كلام الناس، البشر العاديين الذين يعانون مصائب السلطة والعهد.
المسّ بالرموز
يتسلّح رئيس الجمهورية ومعه التيار الوطني الحر وكل من حوله في المناصب الرسمية وغير الرسمية، بالمادة 384 من قانون العقوبات اللبناني للجم كل من تسوّل له نفسه المسّ بالرئيس القائد. فبحسب المادة القانونية “من حقّر رئيس الدولة عوقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين” (لا إله..) ولنص المادة بقية، “تُفرض العقوبة نفسها على من حقّر العلم أو الشعار الوطني علانية” (إلا الله..) فيبدو أنّ الأجهزة المختصة في الجمهورية غفلت تتمّة الآية القانونية.
لم يتحرّك القضاء للقصاص من المحرّفين والمعتدين، فكان إخبار تقدّم به عدد من المحامين أمام النيابة العامة التمييزية بجرم تحقير النشيد الوطني.
تفريغ الجمهورية
مع هذا النشيد المحرّف، يستمرّ تفريغ الجمهورية من كل ما فيها، شكلاً ومضموناً. الدولة الفاشلة بمجالسها الدستورية غير الشرعية، ينقصها نشيد مماثل. لا بل ينقص اللبنانيين تحريف مماثل يرفع ذلّهم اليومي. كأنه لا يكفيهم التحقير في حياة البطالة والعوز، ولا ضيم المصارف ودناءة القطاعات المنهوبة. وفي واقع مماثل، خوض معركة الدفاع عن العلم أو النشيد الوطنيين ورمزيّتهما، ترفاً. اليوم أو قبل عام أو عقد أو عقدين أو أكثر، ووصولاً إلى زمن الحرب الأهلية، كان ترفاً مطلقاً. ليس ذلك نقصاً في الوطنية، بل مجرّد أولويات بديهية. الملجأ الآمن أبدى من الأرزة.
المرور على المعابر أولى من “سيفنا والقلم”. لقمة العيش قبل “سهلنا والجبل”. في الحرب استبدل البعض الأرزة بوردة قرنبيط. وبعدها بورقة حشيش.
وتوالت بعدها الأفكار الإبداعية، فتوسّطت أكياس النفايات العلم عام 2015. وبعدها احتلّت صور مصرف لبنان ومعه كل مصارف السياسيين العلم ابتداءً من تشرين الأول 2019. كل ذلك تطبيقاً لانحلال الدولة وانحدارها في اتجاه جمهوريات الموز.
فكان للموز أيضاً حصّته على العلم خلال التمديد للبرلمان على مرحلتين. انحلّت الجمهورية ومؤسساتها، وبات اللبنانيون يعيشون في جمهورية هجينة تعدّدت رموزها بين مختلف أشكال النبات. جمهورية مزارع الزعامات والطوائف، فيها شعوب سعيدة ولو مذلولة. هذا ما تريد توريثه لصغار الزعامات. هذا ما جنته السلطة على اللبنانيين، وهذا ما تحاول الثورة تغييره.