مما لا شك فيه ان التيار “الوطني الحر” لا يتحمل منفرداً عبء المشاكل المتفاقمة التي ألمّت بلبنان. وللانصاف، فإن واقع الأزمة الحالية هو نتيجة لتراكمات سنوات طويلة اتّبعت فيها السياسات المتعاقبة مبدأ “الترقيع” الذي تسبب باهتراء بنية الوطن، الا أن سياسة “البرتقاليين” والسلوكيات الصادرة عمن هم في موقع القرار، والتي استفزّت شريحة واسعة من المجتمع اللبناني عجّلت ببناء أسوار بينه وبين خصومه في السياسة، حتى بات الحوار مستحيلا!
وبعيد انطلاق ثورة 17 تشرين في لبنان، تظهّرت نقمة اللبنانيين على التيار على أنها استهداف يرمي الى إضعافه لتحييده عن الساحة السياسية، لكن الحقيقة التي ترفض قاعدته الشعبية الاعتراف بها هي أن الوزير السابق جبران باسيل قد تمادى في تهميش فئة من المواطنين، وركّز في مجمل خطاباته على عنوان واحد، وهو استرجاع حقوق المسيحيين، ومضى في تعيين جماعاته في وظائف الدولة متجاهلاً حقّ الباقين في التوظيف، الأمر الذي انعكس سلباً على صورة التيار ودفع البعض الى اعتباره “تيار الطائفية والعنصرية والهيمنة على الدولة”!
وفيما استمرّ “الوطني الحر” في سياسة الاستكبار واعتماد منطق “انا او لا احد” غير ملتفتٍ الى باقي المكونات السياسية في لبنان، كان جمهوره يخوض معارك طاحنة عبر وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي متباهيا بفائض القوة المُستمدّ من تحالفه مع “حزب الله”، الأمر الذي أثار امتعاض سائر الاحزاب ومناصريهم، ونقمة الحراك الشعبي الذي اعتبر أن استئثار التيار بالحكم في كافة مؤسسات الدولة واستحكامه بجميع مفاصلها سبب كافٍ ليصبح رأس الهرم في منظومة الفساد المتفشّي.
والجدير بالذكر، ان الانشقاقات التي حصلت داخل التيار عززت وقوف اللبنانيين في مواجهته على وجه التحديد، بالإضافة الى اليقظة الشعبية التي ساهمت بتراجع عدد مؤيديه، وإن كان بنِسبٍ متفاوتة بين حالة واخرى، والتي تكشّفت بالهجوم المباشر على رئيسه جبران باسيل حتى اصبح اسمه “ترند” متداولاً على شبكات التواصل وتأرجح بين داعم ومعارض، ولعل المعارضين تفوّقوا في التعبير عن رفضهم لأداء باسيل وتياره الذي غلبت عليه سياسة “فرّق تسد” في مختلف الظروف التي طرأت على لبنان.
لربّما كانت الحملة الشعبية والسياسية التي انطلقت ضد “العهد” منذ سنوات وارتفعت وتيرتها تدريجيا حتى انفجرت في 17 تشرين الاول سبباً مباشراً لردود الفعل الشرسة التي انتهجها مناصرو “الوطني الحر” بدافع إحساسهم بالظلم، وبعيدا عما اذا كانت هذه الحملات محقة أو مجحفة، الا أن الخطاب اليميني الذي اعتمده الوزير جبران باسيل بغية إعادة استقطاب الشارع المسيحي حوله لتعويض خساراته، عزز عدائية قاعدته الشعبية وزاد من حجم خصوماته السياسية فأدخله في دائرة مفرغة ينقّب تياره فيها عن المصطلحات الحادة والمتطرفة لاستجماع قوّته، ويستجلب بالمقابل امتعاضا من الحلفاء وعداوة من الخصوم الذين ضاقوا ذرعا بسلوك “انا ومن بعدي الطوفان”! فهل من مزيد؟
فائض السلطة الذي استشعره العونيون بعد وصول الرئيس ميشال عون الى سدة الرئاسة ضاعف من ،عنجهيّتم، فلجأوا الى التعالي على باقي المكونات في الوطن، ولعلّ ابرز المصطلحات التي استخدمها هؤلاء والتي تؤكد نظرة الاستكبار تجاه الآخرين هو “الشعب الرتش” والذي استخدمه “البرتقاليون” في وصف الشعب اللبناني غير المنتمي “للوطني الحر”، هذا المصطلح الذي شمل الجميع من دون استثناء، وإن في همس النفوس، الا انهم توجّهوا به نحو الخصوم بمنطق المضطر، مراعاة للتحالفات التي تكرّس استعلاءهم!
كل هذه الاسباب دفعت اللبنانيين للتركيز على “الوطني الحر” اكثر من سواه من الاحزاب والتيارات السياسية، وذلك في محاولة منهم لرد اعتبارهم مما اعتبروه اذلالا لهم وتحقيرا بهم، وزاد من نقمتهم ورفضهم المطلق للتيار.
ويبقى السؤال، هل فهم التيار “الوطني الحر” الرسائل الصارخة التي وجّهت اليه بشكل مباشر منذ بدء تحركات 17 تشرين وسيسعى الى تعديل خطابه في المرحلة المقبلة؟ ام أنه سيتجذّر اكثر ويمعن بالهجوم المضاد الذي سيضاعف اعداد المعارضين ويزيد من حدّة “الثورة” حتى إنهاء “الحالة العونية” في لبنان؟!