في ظل معارك إدلب وريف حلب الغربي، وما يصاحبها من عملية تهجير جديدة وواسعة النطاق، يظهر ضعف الموقف الأوروبي في التعامل مع هذه القضية، وانعدام القدرة على العمل لوقف هذه العمليات العسكرية، التي تؤدي إلى هجرات لن تتحملها تركيا، وستتسرب منها أمواج اللاجئين إلى أوروبا. ويبدو أن التأثير الفرنسي والأوروبي هامشي في هذه المعادلة.
مناسبة هذا القول، هي للاستشهاد والردّ على كل الرهانات اللبنانية على أن استقرار لبنان محمي وممنوع من الانهيار، بفعل وجود اللاجئين، الذين لا تريد لهم أوروبا أن يتوجهوا إليها. نفعت هذه المعادلة سابقاً، مرة بعد أخرى، لكنها لم تعد مجدية في ظل التطورات الخطيرة التي يعيشها الوضع اللبناني.
من البئر إلى سيدر
تصرّ فرنسا على تمايزها في لبنان عن دول الخليج والولايات المتحدة الأميركية. تحتفظ بالعلاقة والتنسيق مع حزب الله، وتريد حماية عهد ميشال عون. لها في ذلك مصلحة أساسية واستراتيجية، تتعلق بالاحتفاظ بنفوذها في لبنان، من خلال العلاقة السياسية الجيدة مع كل القوى، ومن خلال مشاركة شركة توتال في عملية الاستكشاف والتنقيب عن النفط.
الظروف المعقدة إقليمياً تكشف ضعف الموقف الفرنسي، وتجعله رهينة للحسابات الأميركية. وهذا ينطبق على لبنان كما انطبق من قبل إيران. وكما كانت فرنسا تسعى إلى التمايز عن الموقف الأميركي حيال إيران، واللجوء إلى لعب دور الوسيط، كي لا ينعدم دورها، تقوم بالخطوة ذاتها في لبنان، عبر المساعي التي ستبذلها مع الأميركيين من أجل تليين موقفهم وفصل ملف العقوبات عن ملف مساعدة لبنان اقتصادياً.
يعطي انطلاق عمليات استكشاف النفط في البلوك رقم 4 انطباعاً إيجابياً، لكنه غير قادر على التغطية على الوضع القائم، الذي تداهمه استحقاقات كثيرة، وتتراكم فيه كل المشاكل التي يعاني منها لبنان اقتصادياً ومعيشياً. مجيء الباخرة وانطلاق عملها ينحصر في الإشارة الإيجابية فقط. مجرد إشارة غير قادرة على التأثير النوعي أو الجدي لتغيير واقع الحال المتدهور. وهنا لا ننسى انتقال الموقف الفرنسي من مرحلة سيدر إلى مرحلة صندوق النقد. وهذا يعني أن مندرجات سيدر قد انتهت، أو هي معلقة بالحد الأدنى. خصوصاً أن سيدر لا يُختصر بفرنسا بل هي فقط الدولة الداعية له. الفرصة الوحيدة أمام لبنان هي بوجود جهة دولية كصندوق النقد الدولي لإجراء معالجة حقيقية أو جذرية للوضع في البلد. هذه النقطة يتأكد منها الفرنسيون. وهم غير قادرين على إقناع الدول الأخرى بالاندفاع نحو لبنان. خصوصاً في ظل الموقف السلبي للكثير من الدول، وخصوصاً الخليجية، تجاه لبنان. وهذا ما لن يمكن باريس من تسيير السياسة التي ترغبها في لبنان.
مناورات وأكاذيب
هناك غضب فرنسي من الطبقة السياسية، والتي لم تسع إلى تلبية باريس بأي من المطالب السابقة على ثورة 17 تشرين. كما لم يتم اتخاذ أي إجراءات إصلاحية منذ مؤتمر سيدر. بل كانت الخيبة الفرنسية كبيرة من المسؤولين اللبنانيين الذين استمروا في مناوراتهم وكذبهم. الإقرار الفرنسي بدور صندوق النقد يعكس عجزاً فرنسياً عن المساعي التي كانت باريس تبذلها في تولي موضوع لبنان وإصلاحاته برمتها. وما الذهاب إلى صندوق النقد إلا انتقال من حالة التمنيات والمواربات إلى الإلزام والفرض.
دور صندوق النقد سينعكس حتماً على الدور الفرنسي، بقدر ما ينعكس على الوضع اللبناني. وسيكون أشبه بعملية جراحية، لأن المسكنات لم تعد تنفع. ولدى الفرنسي حذر دائم من حصول تغيير جذري في بنية النظام السياسي والاقتصادي في لبنان. إذ هناك حساسية شديدة لدى الفرنسيين تجاه الصيغة اللبنانية، تحتم عليهم الاهتمام بالنظام اللبناني، لما يمثّله من إرث فرنسي قديم، وبما تمثله التركيبة من نفوذ فرنسي، وإن كان معنوياً أو ثقافياً ويستند إلى العلاقة التاريخية. هذه الحساسية لا تكفي ليتمكن الفرنسيون من اجتراح حلول اقتصادية ومالية وسياسية للحفاظ على هذه التركيبة. فسوء الوضع تخطى أي قدرة لفرنسا للتغيير، خصوصاً أن باريس لا تتمتع بالقدرة الذاتية على المعالجة، إنما تحتاج إلى غطاء دولي واسع.
شروط خليجية وأميركية
هنا تأتي الحاجة الفرنسية للجوء إلى مسعى مع الأميركيين. فالإقرار بدور صندوق النقد الدولي يعني الإقرار الضمني بالانحياز إلى الخيار الأميركي في التعامل مع الشأن اللبناني.. على أن يحفظ الفرنسيون حصتهم في لبنان من خلال الأميركيين. وهذه المعادلة تتطابق مع كيفية التعامل الفرنسي مع إيران. أي التمايز عن الولايات المتحدة والتظاهر بلعب دور الوسيط، مقابل الحفاظ على التماهي مع الأميركيين وليس مواجهتهم. هكذا تكون الخصوصية الفرنسية شكلية، ولا يمكن للدفاع الفرنسي عن لبنان أن يكون بشروط مختلفة عن الشروط المسلم بها أميركياً وخليجياً. فالنقاش تجاوز حماية لبنان من الانهيار، ووصل إلى حدود يطال جوانب مادية محسوسة ترتبط بالإصلاحات الواجب اتخاذها.
كل المؤشرات تفيد بأن لبنان سيكون دولة خاضعة لحكومات دول عدّة، وكأنه يذهب باتجاه مجلس قناصل أو سفراء يقوده ويقرر فيه، تماماً كما هو الحال في سوريا، فيكون لإيران وفرنسا وروسيا وأميركا – وربما الصين لاحقاً – أدوار تتعلق بالمصير اللبناني.