لعلّ اكثر ما يعكس سياسة النعامة التي اتّبعها بعض مهندسي الخيارات المالية والاقتصادية خلال المرحلة السابقة هو الكلام الصادم المنسوب الى أحد أهم مُحللي المخاطر، والذي يعمل في مصرف عالمي، حيث نقل عنه مطّلعون قوله انه زار لبنان عام 2012 وأبلغ آنذاك الى من يعنيه الامر انّ “بنوكاً لبنانية عدة تكاد تكون مُنتحلة صفة، لأنها لا تتقيد بالقواعد الدقيقة للنشاط المصرفي، وأنها لو خضعت للمعايير اللازمة لكانت منذ ذلك الحين في حالة تعثّر”.
وما يزيد الواقع اللبناني الراهن تعقيداً هو انه نتاج مزيج من 4 أزمات صعبة انفجرت دفعة واحدة، وهي تتصل بأعباء الدين العام، ومأزق القطاع المصرفي، وتَفلّت سعر الصرف، وتفاقم التداعيات الاقتصادية والاجتماعية.
وما تجدر الاشارة اليه أنّ لبنان هو من بين الدول القليلة جداً التي واجهت في وقت واحد كارثة مالية “رباعية الدفع”، حيث أنّ نسبة تلك الدول لا تتعدى حدود 2 في المئة من مجموع البلدان التي أصابها التعثر، في حين انّ معظم البلدان التي تعرّضت لنكسة في اقتصادياتها عانَت حصراً من أزمة واحدة وليس من 4 كما هو وضع لبنان حالياً.
والسؤال المطروح بقوة الآن هو: من سيدفع ثمن “الجراحة القيصرية” التي يتطلبها العلاج او سيتحمل العبء الاكبر منه: المواطن، الدولة، المصارف، أم مصرف لبنان المركزي؟
ليس خافياً انّ هناك من يحاول مجدداً تدفيع الضحية، أي المواطن، كلفة الخروج من ورطة صنعتها على امتداد عقود لعبة توزيع الادوار والارباح بين الطبقتين السياسية والمصرفية، علماً أنّ إنقاذ مدّخرات صغار المودعين في المصارف لا يتطلّب على سبيل المثال سوى جزء صغير من الحجم الاجمالي لفاتورة الانقاذ، في اعتبار انّ 84 في المئة من المودعين يملكون حسابات مصرفية متواضعة، لا تتجاوز غالبيتها سقف الـ50 ألف دولار.
ومن الاقتراحات المتداولة في بعض الغرف المغلقة أن يجري تسديد تلك الحسابات بالليرة اللبنانية، على ان يتم احتساب قيمة الدولار وفق سعر الصرف المعتمد في السوق، إنما بعد إنشاء شركة صيرفة تتبع للمصارف، بغية ضمان بقاء الدورة النقدية ضمن القطاع المصرفي. كذلك، من الحلول التي يقترحها البعض تحويل جزء من الودائع إلى أسهم في المصارف.
وأيّاً يكن الأمر، فإنّ ما أصبح مؤكداً وثابتاً بالنسبة الى معظم الخبراء هو انّ الرسملة العميقة واعادة الهيكلة تشكّلان الممر الالزامي الذي يتوجّب على المصارف ومصرف لبنان المركزي عبوره لبدء رحلة الخروج من النفق الحالي.
والمشكلة انّ الوقت الذي اشتراه اصحاب القرار السياسي والمالي بكلفة عالية عبر سنوات طويلة لتأجيل الانهيار، انقلب على «مروّضيه» الذين فقدوا السيطرة عليه والقدرة على احتوائه، وبالتالي صاروا تحت رحمة سيفه القاطع وفي مرمى مفاجآته. وأخطر ما يمكن ان يحمله معه المستقبل القريب في جعبته يتعلق بإمكان تَصاعد المفاعيل الاقتصادية والاجتماعية للأزمة الرباعية الابعاد، اذا لم تبدأ المعالجات الصحيحة قبل استفحال الانهيار والتدحرج الى قعر الهاوية. ولا يخفي أحد العارفين بحقيقة الارقام قلقه من التداعيات التي ستترتّب على أي تأخير في حصر الحريق، مُنبّهاً الى انّ ما ظهر حتى الآن من المخاطر الاقتصادية والاجتماعية هو غيومها وليس عواصفها.
وعلى وقع هذه التحديات، أتت زيارة وفد صندوق النقد الدولي الى لبنان اخيراً، وسط مقاربات داخلية متباينة لطبيعة الدور الذي يمكن ان يؤديه وحدوده. وتفيد المعلومات المُستقاة من كواليس اجتماعات الوفد انه أبلغ الى بعض الجهات اللبنانية انّ الازمة الاقتصادية لم تكتمل فصولاً بعد، وانّ مفاعيلها المتوقعة لاحقاً ستكون صعبة وموجِعة، خصوصاً مع ترجيح تسجيل ازدياد كبير في نسبة البطالة وانخفاض حاد في النمو.
وسأل الوفد عمّا اذا كانت المصارف قد أجرت ما يسمّى “قياس الجهد” لاختبار قدراتها الحقيقية في مواجهة الازمة المركّبة (إختبار يشبه قياس الجهد لفحص القلب).
ونصح الوفد باختصار مراحل الاوجاع التي ستترتّب على العلاج المفترض، معتبراً انّ تسديد فاتورة الألم دفعة واحدة أفضل من تقسيطها “إذ انّ الانقاذ عبر تناول جرعة كاملة من الاجراءات القاسية سيتسبّب بأوجاع حادة لمدة 8 أشهر تقريباً، بينما سيطول امدها لسنوات إذا تمّت تجزئة الحلول”.
ويلاحظ مطّلعون على خفايا الارقام وسراديبها انّ بعض اركان المنظومة السياسية والمصرفية اللبنانية ذهبوا أثناء الحقبة الماضية أبعد بكثير مما يريده صندوق النقد وزايَدوا عليه في سياساته، الى حد انّ شخصية معروفة بتَحسّسها الشديد حيال وصفات هذا الصندوق، اعتبرت انه وعلى الرغم من كل علّاته، يكاد يكون أقل سوءاً من المجموعة التي تحكّمَت طويلاً بخيارات لبنان المالية والاقتصادية”.