في بيروت، تكرّر مشهد المسيرات مجدداً. وهذه المرة بعنوان “ستدفعون الثمن”. تحدّى الآلاف المطر ورذاذ كورونا، وساروا في شوارع العاصمة مردّدين شعارات ثورة 17 تشرين الأول. هذه المسيرات الأسبوعية لم تفقد حماستها بعد، ولو أنّها تحوّلت إلى موعد أسبوعي روتيني قد يملّ منه الثوار أو المشاهدين. لكنّ الثورة تضرب الملل، بشعاراتها وردّياتها المبتكرة. فتجدّد نفسها طبقاً للواقع اليومي. فكان آخر إبداعات الهتافات “كورونا، كورونا، ميشال عون كورونا”.
وأبرز ما في مسيرة السبت، أنها اخترقت مجدداً شوارع بيروت الشعبية. من البربير إلى وسط البلد، مروراً بالنويري والبسطة التحتا. وفي هذه الشوارع سطوة حزبية تكرّسها الأعلام واللافتات السلطوية، واجهها الثوار بالشعارات اللازمة. وانتهت المسيرة بلحظات من المشاغبة على مدخل البرلمان في شارع ويغان، وأخرى طفيفة في ساحة رياض الصلح. لم يكن المطلوب مواجهة قوى الأمن بالأمس، بل التأكيد على أنّ في الثورة نبض باقٍ وسيرتفع بعد سُحابة منح فرصة للحكومة. وما فشل الحكومة وعجزها إلا دليلين على ذلك. وفي مسيرة أمس، بقي المشهد الأول لمواجهة كورونا. فالفيروس دخل على خط الثورة أيضاً.
كمامات ثورية
رفع رجل خمسيني لافتة مكتوب عليها “على الكورونا النزول إلى المجلس”. أي مجلس؟ أي مجلس كان، كل مجلس، لا يهم. دعوة واضحة وصريحة لا حاجة إلى تحليلها. ومن تبعات وصول الفيروس إلى لبنان أنّ كمّامات بعض المشاركين في المسيرة تلوّنت بألوان العلم اللبناني. وكُتبوا عليها بعض الشعارات السياسية: ثورة، حرية، لا ثقة. فيمكن تطويع كل شيء لخدمة الثورة. تسلّوا بزخرفة الكمامات قبل ساعات. فعلوا ذلك عن سابق إصرار وتصميم تلبية للموعد الأسبوعي. وإذ بالكمامة، التي رافقت أغلب المتظاهرين منذ 17 تشرين لردّ شرّ قنابل الغاز المسيل للدموع، تتحوّل إلى أداة يومية لمواجهة رذاذ كورونا. عصفوران بحجر واحد: مواجهة شر غاز القوى الأمنية والفيروس. وعصفور إضافي طرأ بعد الملاحقات الأمنية المتصاعدة، يتمثّل بتغطية الوجوه من كاميرات رجال الأمن التي تعتمد عليها الأجهزة لتوقيف الناشطين. والكورونا هاجس أساسي، تحديداً في ظل الضعف والعجز اللذين أثبتهما أداء الحكومة في مواجهة الفيروس. فانضم الأخير إلى سلّة مطالب المتظاهرين وبات سهماً إضافياً يوجّه إلى السلطة واستهتارها بحياة اللبنانيين.
نحن الكابوس
انطلقت المسيرة من البربير تحت مطر خفيف لم يمنع التجمهر ولا قطع الطريق. في المكان كانت سبع آليات هامفي للجيش اللبناني قد استبقت وصول المتظاهرين. توزّع عناصرها في مداخل الأبنية وتحت شوادر المحال التجارية هرباً من المطر. وهكذا فعل الثوار بادئ الأمر. عند هذه النقطة الحساسة، طائفياً وحزبياً، لم يتردّد مشاركون في المسيرة في إطلاق هتاف “حرامي حرامي، نبيه بري حرامي”. جاء ذلك بعد وقوف بعض الشبان عند زوايا الشوارع، بين النويري وبربور، لمتابعة ما يحصل. هوياتهم الحزبية واضحة، وكذلك تعليقاتهم الساخرة. تصدّرت المسيرة لافتة سوداء مكتوب عليها باللون الأحمر “نحنا الكابوس الجايي”. شعار على منوال شعارات رابطات مشجعي كرة القدم، الألتراس. الثورة كابوس أتى في 17 تشرين، وسيأتي من جديد، سيجدّد نفسه طالما أنّ من في السلطة باقون ومعهم كل الفساد وسوء الإدارة وتجويع اللبنانيين وسرقة أموالهم.
شعارات ورديّات
عدا هتاف “كورونا، كورونا، ميشال عون كورونا”، غنّى المتظاهرون هتافات عديدة أبرزها على لحن “بين العصر والمغرب”. أعطوا الأغنية قالباً ثورياً خاصاً، فأضحت “بين القصر والمجلس، قاعد حرامي بلادي، نزلوا ثوارِك تشرين ضد الفساد تنادي”. وتبعها مقطع آخر على اللحن نفسه “رح منسقّطهم كلهم 14 و8، سقطنا أول رئيس وجايي دوره للتاني، وميلي يا ثورة تشرين خلصت خلصت الحكاية”. والأصح أنّ الحكاية أصبحت معروفة، وتقول إنّ السلطة فاسدة يجب أن ترحل حرصاً على اللبنانيين. لكن يبقى ترجمتها على أرض الواقع، ولا سبيل لذلك إلا بالعودة إلى الشارع والاستمرار برفع مطالب اللبنانيين وحقوقهم. لكن الأكيد أنّ من خلال هذه الردّيات، أثبت الثوار أنّ الثورة تضرب الملل، فكيف إذا اكتمل المشهد بهتاف “هيلا هو”.
بيان سياسي
بين رشق ماكينات سحب الأموال على مداخل المصارف بالبيض من جهة، والتوقّف عند مبنى المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي في البسطة، لرفض الاعتقالات والملاحقات و”تشبيح الأمن” من جهة أخرى، مضت المسيرة باتجاه وزارة المال (بشارة الخوري) ووزارة الاقتصاد (اللعازارية). وهناك تُلي بيان سياسي طويل جدّد وجهة الثورة ضد “السلطة الطائفية وتحالفها مع المصارف لإفقار اللبنانيين وتجويعهم وتشريع النهب المنظم لثرواتنا وأموالنا”. أكد البيان على رفض تحميل الفئات الشعبية تبعات الانهيار الاقتصادي والنقدي وما أنتجته سياسات السلطة وتشريعاتها. صوبّت على استهتار السلطة بحياة اللبنانيين من خلال “تعاطيها باستخفاف مع خطر كورونا وإمكانيةِ تفشيه في لبنان”. فجمع كل هذه العناوين في بيان واحد يتطلّب جهداً، كتاباً، أو مجلّداً حتى! ورفعوا سلسلة من المطالب بعنوان “ستدفون الثمن”، أولها هيكلة الدين العام واستعادة الأموال المنهوبة، وتحرير القضاء وإقرار مشاريع وقوانين تضمن الحماية الاجتماعية للبنانيين، إضافة إلى تسكير الصناديق والمجالس الزبائنية، وإقرار قانون انتخابي جديد.