مع الأم دائماً ما يكفي من رصاص

تعرف أنّ ابنها خرج إلى المعركة قاتلاً أو مقتولاً، فانتحبت قبل موعد الموت نفسه

4 مارس 2020
مع الأم دائماً ما يكفي من رصاص
نادر فوز
“للأم، دائماً، ما يكفيها من الدموع لكل شيء”، ماكسيم غوركي (الأم، 1907).

منطقتنا ملطّخة بالدماء على الدوام.

من فلسطين إلى اليمن، كأنه كوكب خاص من نار وبارود.

لا يكفيه الفقر والقمع والعسكرة وتخلّف الأنظمة وسلطة الدين والمذهبة.

كل هذه، عوامل تقود الكوكب الصغير أساساً إلى ديمومة القتل والدم. كأنه، كوكب، مرادف لبلاغة الموت وأفظع الأساليب.

وأمام أرقام الموت وصور النعوش، تجلس أم أخرى بالقرب من ابنها المجثّى وتطيّب خاطره، هو الذي غادرته روحه قبل ساعات.

مقاتل من حزب الله قضى في سوريا، تحادثه أمه بكل هدوء واعتزاز، “هنيئاً لك (الشهادة) يا نور عيوني يا إمي”.

وفي مشهد آخر، تخرج امرأة رافعةً بندقية كلاشينكوف، وتطلق النار في الهواء.

تطلق نار الحداد والفرح معاً. كالدموع، مع الأم ما يكفي من رصاص لكل شيء.

قاتل أو مقتول
لا يمكن غض النظر عن هوية الابنين، السياسية والعقائدية والحزبية والعسكرية. شابان، وغيرهم كثر، كانا يحملان السلاح ويقاتلان.

هما مقاتلان، ليسوا من الضحايا المدنيين العزّل. لم يموتا في حادث سير، بل تواجدا هناك مع كثيرين غيرهم عن سابق تصوّر وتصميم طلباً لـ”الظفر”. دخلوا المعركة ليخرجوا منها قاتلين أو مقتولين. أليس هذا منطق العسكر؟ قاتلا في سوريا، في مواجهة مع تركيا، دفاعاً عن نفوذ إيران فيها.

جنديان في معركة كبرى بين دول وإمبراطوريات، جاءت على حساب شعب مسكين قُتل قسم منه وهجّر قسمه الآخر. لا يمكن غض النظر عن كل ذلك. لكن كل هذه الحسابات في ميل ومشهد الأم في ميل آخر.

أم (أمّان) تودّع ابنها، بقلب قوي، بلا دموع ولا نحيب. بل بكل ما فيه من مباركة وفخر.

الانتحاب المسبق
ضرَب هذان المشهدان صورة الأم الثكلى الحزينة على موت ولدها. هي، التي تعرف أنّ ابنها خرج إلى المعركة قاتلاً أو مقتولاً، انتحبت قبل موعد الموت نفسه.

وحين أتت تلك اللحظة كانت على أتمّ الاستعداد لها. أتاها أحد الموجودين بكرسي، فردّت “مرتاحة”. وقفت تهنئ “ابنها الشهيد” على طريقتها، وخلفها إيمان شديد بالحياة.

حياته بعد الموت، وحياة قومه وقضيّته. ليس هذا قابلاً للنقاش، معها. فمع الأم ما يكفي من رصاص لكل شيء. وليس قابلاً للنقاش مع القوم أنفسهم أيضاً. فهم يملكون الحق والحقيقة وكل شيء طالما أنّ المعركة باسم الدين وباسم الله. سقط الشهيد، لنزفّه.

“زفّ الشهيد”
على كوكب النار والبارود المتوسّطي، مجتمعات لا تزال “تزفّ الشهداء”. سقط هؤلاء، لكنّ قومهم لا يرون في الموت نهاية، بل بسالة في الدفاع عن المعتقد والقوم نفسه.

هذا ما تقوله ديانات الكوكب الصغير أصلاً. في المسيحية، الشهيد وصف لكل من قُتل بسبب تبشيره بالمسيحية أو إيمانه لها.

في اليهودية، التضحية بالذات من أجل الديانة أحد أهم الأعمال التي ترضي الله.

وفي الإسلام هو كل من يقتل أثناء الحرب مع العدو في الجهاد أو الدفاع عن الأمة، وكل من قُتل دون ماله ودون دينه ودون دمه ودون أهله. منهم من يزّف “الشهيد” بالحزن، ومنهم من يزفّهم بالحزن المقنّع بالفرح وروح الانتصار.

خسارة أخ أو ابن لا يمكن أن يكون دافعاً للفرح. لا يمكن إلا أن يدمي القلب، حتى على كوكبنا الصغير المليء بالقتل والموت. والتعبير عن عكس ذلك، من مسؤولين وقيادات وعسكر، ليس إلا خطاباً سياسياً.

ضرب، لا مفرّ منه، من البروباغندا الملعونة. ونقض ذلك يعني انتهاء الشعور والأحاسيس بالمطلق أو كمال مطلق.

في الخامس من كانون الثاني الماضي، قال الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، في خطابه إنّ حزب الله لا يُهزم. “عندما ننتصر، ننتصر، وعندما نستشهد، ننتصر”.

قد تلخّص هذه العبارة كل ما سبق. لكن يبقى أن للأم، دائماً، ما يكفيها من الدموع لكل شيء.

المصدر المدن