بين الحين و الآخر، تعود قضية الأبنية التراثية والأثرية لتخيم كغيمة عابرة فوق عجز الدولة ومؤسساتها الدائم والمقيم في المجالات والميادين كافة. ومنها مجال حماية التراث اللبناني من جشع المستثمرين العقاريين.
هدم مبنيين تراثيين
لكن الإهمال يبدو فادحاً هذه المرّة، بعدما بدأت عملية هدم مبنيين متميزين في سجل الإرث التاريخي لعمارة مدينة بيروت التقليدية: المنزل الشائعة تسميته بالمنزل الأحمر الذي يعود إلى الحقبة العثمانية. والهدم وافق عليه محافظ بيروت. والمبنى الثاني هو مبنى رزق العصري الذي بناه المهندس المعماري إدغار سيستو، وقد سمح لمالكه المضي بهدمه قرارٌ صدر عن مجلس شورى الدولة، يعاكس قرار وزارة الثقافة.
وتصاعد الاحتجاج في اليومين المنصرمين على القرارين، فجاء متزامناً مع عملية “تفكيك” البيت الأحمر السريعة، بعد تفريغه من محتواياته الداخلية ونزع قرميده الأحمر، وتجريد واجهاته من النوافذ الحُمر التي لطالما كانت علامته الفارقة في منطقة رأس بيروت.
وقفة احتجاجية
وانتشرت صور أعمال الهدم على مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك الدعوة إلى وقفة احتجاجية أمام البيت الأحمر في شارع عبد العزيز. ونُفِّذت الوقفة بعد ظهر الأربعاء 4 آذار الحالي، فشارك فيها ناشطون وناشطات من جمعيات الحفاظ على تراث بيروت وبعض المهندسين والمعماريين والحقوقيين الناشطين في مجال الحفاظ على المباني التراثية، وبعض أهالي المنطقة.
بدأ التجمّع بتمنّ من القوى الأمنية بعدم الدخول إلى البيت الذي بدا مشرعاً مهملاً، والبادئة فيه عملية الهدم. وارتفعت شعارات وهتافات مندّدة بقرار المحافظ زياد شبيب، مطالبةً إياه القيام بواجبه في الحفاظ على تراث المدينة.
وفي حديث “المدن” مع بولا ربيز، الناشطة في حملة الحفاظ على البيت الأحمر، شرحت الأهمية التاريخية للمنزل. فتوقفت عند عقد الرئيس صائب سلام العديد من الاجتماعات فيه. وذكرت أن المشاورات على تشكيل بعض الحكومات عقدت فيه أيضاً. وهذا إضافة إلى القيمة الفنية، المعمارية التراثية، التي يمثلها هذا البيت، ما يجعل عملية إنقاذه ملحّة، حسب ربيز. وتحدثت المهندسة المعمارية والناشطة منى حلّاق، فأشارت إلى “أنّ فلسفة التعامل مع الأبنية التاريخية تحتّم النظر في القيمة التراثية، من دون مقارنتها بالقيمة الماديّة”. كثيرون من أهل المنطقة وافقوا هذا الرأي معتبرين أنّ “المعركة الآن مع رأس المال”، مبدين استعدادهم للوقوف في وجه من يريد تدمير هوية بيروت والتخلّي عن ذاكرتها.
ودار حديث قانوني شارك فيه عدد من المحامين الحاضرين حول الآليات الرسمية التي يجب اتباعها والمطالبة بإقرار تشريعات وقوانين تحمي هذه الأبنية، وتحرّرها من القرارات الاستنسابية التي يتخذها وزراء الثقافة، من دون معايير واضحة.
ألاعيب الوزراء وسواهم
ورحلة البيت الأحمر طويلة وشاقّة مع وزراء الثقافة المتعاقبين. فالوزير روني عريجي وقّع على قرار منع هدمه في بداية العام 2016، نتيجة كشف دقيق وُضع على أثره تقرير رفعه مدير عام مديرية الآثار سركيس خوري حينذاك، فأكد فيه أنّ البيت أثري وتاريخي ولا يجوز هدمه، ثم صدر قرار من مجلس شورى الدولة قضى بايقاف عملية الهدم.
لكن الوزير غطاس خوري أزال البيت عن لائحة الجرد العامة للأبنية الأثرية والمناظر الطبيعية في لبنان في العام 2017، وشرّع باب هدمه مجدداً. منذ ذلك الحين والبيت مُتَنازَعٌ بين الهدم وتوقيفه. وفي الأثناء راح يفرغ من الداخل. وفي ظلّ هذا الوضع لم يحرّك وزير الثقافة الحالي عباس مرتضى ساكناً حتى الآن.
لعلّ تلاعب وزراء الثقافة هو ما يؤدي إلى هذا الإهمال الإجرامي في حق الإرث والتراث. لكن الجهات المعنية الأخرى، كمجلس شورى الدولة، محافظة وبلدية بيروت مسؤولة ومذنبة أيضاً وعن عمد.
وفي ظلّ أجواء انتفاضة 17 تشرين العارمة والملهمة لا بد لصنّاع القرار أن يتخذوا الخيارات الصائبة خدمة للصالح العام. والمشاركون في الوقفة الاحتجاجية طالبوا أن تبقى منطقة رأس بيروت نموذجية ببيوتها التاريخية، وأن تظل هذه البيوت معالم بارزة لا يطالها الهدم الاستثماري الجشع. وأبدى المحتجون حرصهم الشديد على متابعة قضية المبنيين وتصعيد التحركات لضمان وقف عملية الهدم، والمطالبة ترميمهما.