يوم الأربعاء، حاولت عناصر من قوى الأمن الداخلي وبلدية بيروت منع المواطن م. ق.
من بيع الخضار والفواكه، فانتفض على القرار وقام برمي محتويات بسطة الخضار على الطريق في منطقة النويري.
وفي وقت لاحق، التقى المواطن المذكور مع أحد موفدي وزارة الداخلية للاطّلاع منه على حقيقة ما حصل.
“ميم”، رجل أربعيني، أب لطفل وطفلة، يعمل في بيع الخضار على الطريق.
يعتاش من البسطة التي تؤمن له مدخوله ومصاريف عائلته الصغيرة في منطقة البسطة.
بسطة في البسطة، مخالفة للقانون، لكنه لا يملك أي خيارات أخرى لتأمين قوت عائلته.
وفي زمن كورونا جاءه رجال الأمن، أمام كاميرات المواطنين، لاقتلاع بسطته ومنعه من العمل تطبيقاً لقرار التعبئة العامة.
والسؤال المؤجّل منذ أيام عن الموت من كورونا أو الموت جوعاً، بات واقعاً.
فحال “ميم” كحال آلاف اللبنانيين الذين إن لم يعملوا اليوم أمضوا الغد بلا طعام. وبالتالي جوابهم واضح: لا نريد الموت من الجوع.
لا كلام
“ميم” يرفض الحديث إلى الإعلام والصحافيين. لا يريد الظهور لأنه يريد الابتعاد عن المتاعب. بالتأكيد هو لا يبحث عن الشهرة.
“عم بهدل حالي لإنو أنا مبهدل”، قال في الفيديو المصوّر.
والجلوس في كادر المصوّرين، في هذه الحالة، تعني بهدلة إضافية.
ربما يخاف من أن يعايره أحداً بفقره.
وإن فعل أحدهم، فالتشهير بالفاعل واجب.
رجل يتّقي الله، وهذا واضح في كلامه على الهاتف.
لا كلام مع الإعلام، لكن لا يحول ذلك دون عرض الحالة العامة الفعلية التي افتتحها “ميم” في مشهد الفيديو.
“ميم” جزء من شريحة واسعة من ناس، لبنانيين وغير لبنانيين، مهدّدين بالموت من الجوع. مهدّدون بالطرد من منازلهم إن لم يسددوا إيجار المنزل. عدا الهموم الاقتصادية والاجتماعية الأخرى، بدءاً من أقسام المدارس، ووصولاً إلى مشوار نهار “الأحد” إن وُجد أساساً في قاموس الفقراء.
تضامن طبيعي
في يوم عادي، لا كورونا فيه، كان التضامن مع “ميم” وزملائه من الباعة الجوالين أو المعتدين على الأرصفة أمراً طبيعياً. ومع الأزمة الاقتصادية والمالية التي تضرب البلاد، التضامن معهم منطقي أكثر. وفي زمن كورونا، الوقوف إلى جانبهم أمراً أكثر من طبيعي. كل هذه الأزمات المتلاحقة تنقضّ على الجميع، لكنّ المسحوقين أولى ضحاياها. وتطبيق عناصر الأمن للقانون بوجه “ميم”، يأتي حصراً من باب مخالفته للقانون بوجود بسطة غير شرعية، صحيح. كأنّ الأمن “تفضّى” لمواجهة هؤلاء، في حين تغصّ شوارع المدينة يومياً بمئات المخالفات التي يُغضّ النظر عنها لسبب أو لآخر. وعلى الأرجح، مثل “ميم”، ثمة عشرات الحالات التي عانت ملاحقات القوى الأمني، إلا أنّ الكاميرات لم تلتقطها ولم تنشر حجم الغضب الذي فيها: “أكل ما معنا ناكل، مين بطعميني أنا”؟ يسأل “ميم”.
رفض المساعدة
لا يريد “ميم” مساعدةً من أحد. رفض كل ما عُرض عليه في الساعات الماضية، “عوضي على الله”. “قدّر الله ما شاء فعل”.
رجل مؤمن وبسيط في حاله. حتى أنه رفض مساعدات من بعض أقاربه.
لا يريد شيئاً إلا بسطته. يحميها، فتطعمه وتكفيه كل شرور الدنيا. يعيش منها وعليها.
معتاد على تأدية هذه الوظيفة ولا يريد إلا أن يتركه الناس بحاله.
والأصحّ يريد أن تتركه “الدولة” بحاله، أن تكفيه شرورها.
لم يهاجم العناصر الأمنية، ولا هم هاجموه. هذا ما يؤكده “ميم” للمقرّبين منه.
لكنه انتفض.
ربما جُنّ للحظات، فقد أعصابه واستحمّ بكُرات صفراء.
رد فعل طبيعي نتيجة الغضب من الأحوال.
حبّات حامض أو تفّاح قطعت السير في منطقة النويري.
انقطع رزقه، فقطع هذا الرزق الطريق.
والناس متضامنون معه.
لم يتذمّر أحد، ولم يزمّر أحد يعرف الجميع أنّ ما حصل انتقاص من كرامتهم أيضاً. فالقادر على تأمين الخبز اليوم، قد يعجز عن ذلك غداً.
والدولة تتفرّج.
لم يصدر عن السلطة في لبنان بعد أي قرار أو تعميم يقضي بحماية وظائف العاملين.
لم يصدر عنها أصلاً أي شيء لحماية تلك الوظائف في ظل الأزمة المالية.
وفي زمن كورونا الأمر نفسه. وفي بيروت، وغيرها من المناطق، مؤسسات لا تزال تجبر موظفيها على الحضور إلى المكاتب وبنصف راتب أيضاً.
وإلا الطرد وشبح البطالة وما فيها من مأسي إضافية.
وفي الدول المحترمة، التي قال أحد الوزراء أنها تثني على جهود دولتنا في مكافحة كورونا وتتعلّم من الإجراءات اللبنانية، اتّخذت الحكومات قرارات تلقائية بحماية الوظائف الرسمية والخاصة وتأمين رواتب الموظفين أو على الأقل 80 في المئة منها. لكن هنا، في الدولة المثال لمحاربة الفيروس، فتحت الحكومة صناديق التبرّعات للمساعدة في مواجهة الوباء.
في حين أنّ أموال اللبنانيين، مقيمين ومهاجرين (منتشرين ربما؟)، محبوسة في المصارف. الحكومة حمت المصارف وغطّت حبس أموال المودعين، وتطالب هؤلاء بمساعدتها (يا لبختنا!).
أما “ميم”، فليس في جيبه إلا 7 محاضر ضبط سطّرها له عناصر الأمن في الأشهر الماضية لمخالفة القانون وتأمين لقمة عيشه عن بسطته. فلتأخذ الدولة المال من حسابه المصرفي، إن وجد، ولتقنع إدارة المصرف بذلك أولاً.