قبل إعلان حال التعبئة العامة في البلاد، رحت أمكث في المنزل مخافة تعريض نفسي للعدوى بكورونا. واليوم وبعد مضي ما يقارب شهر بدأت تظهر عليّ أعراض الحجر المنزلي وآثاره.
صرت أوبخّ قطتي كثيرًا وأحدّث نفسي!
فأنا أقيم وحدي.
وبات لقائي – وأحياناً إبصاري – بشراً، ليس بالأمر أو بالحدث العادي، بل حدث عظيم عندي.
أصوات أولاد الجيران صارت تسليني، بعدما كانت تزعجني.
منزلي بلا شرفة.
في طريقي إلى سطح المبنى لأعرض جسمي وروحي لنور الشمس ودفئها، أردد كلمات من أغنية لفرقة أدونيس: “تعا نقعد ع الروف/ مش لحدا هالروف”.
وهي منحولة عن أغنية رائعة بصوت الراحل جوزف صقر النحيل والحنون: تعا تقعد بالفي/مش لحدا هالفي.
كنت أكره الجلوس في نور الشمس والتعرض لأشعة الشمس. اليوم باتت الشمس ملاذي للتفريج عن نفسي، للتخلص من الضغط النفسي الذي يعيشه الناس جميعاً في هذه الأوقات العصيبة، بسبب الحجر المنزلي.
محظوظة أنا بحرش زفتا قبالة منزلي. أنظر إليه من خلف الزجاج، ويزوغ بصري على أخضره النباتي.
على سطح المبنى المقابل أشاهد مجموعة من الأولاد
يتقافزون ويلهون قرب من حبل غسيل.
حتى الثياب المغسولة المنشورة على السطح أشعر أنها وحيدة. لا أعلم إن كان بصرنا ومشاعرنا تغيرت أم الأشياء هي التي تغيرت.
يخطر في بالي أطفال المدن. ليس في أوقات الحجر، بل قبلها، في ما مضى من أوقات عادية. عندما كنا نتحدث أو كانوا يتحدثون عن غياب المساحات الخضراء في بيروت.
محظوظون نحن في الجنوب.
أجهّز “ورق الشام”.
أحشوه بالتبغ. تبغ أهل الجنوب. أطيل وقت لفّ سيجارتي.
أشعلها. وتسقط عيني على النادي الرياضي في الشارع المقابل.
ماذا يفعل رواد هذا النادي في الحجر؟
أعرف بعضًا من مدمني الرياضة الذين أُجبروا على المكوث في المنزل، والجري على آلات الركض.
بعضهم أصابه الإحباط.
محمد شعيب مالك النادي الرياضي – في حديثي معه – أخبرني كيف يقضي وقته في لعب الورق.
بات يأتي إلى ناديه ليلاً.
يسترق وقتاً ليلياً ويأتي وحيداً ليقوم ببعض التمارين الرياضية وحيداً وخفيةً.
كأن زيارة النادي صارت تشبه بيع المخدرات.
للحجر آثاره على برنامج محمد الغذائي: لا مأكولات صحيّة. نعم للنرجيلة وللعب البوبجي.
أما أنا فلا أحب الألعاب الالكترونية.
مشاهدة الأفلام والمسلسلات، محادثات الواتس آب،
مكالمات الفيديو مع صديقاتي، وقد تطول لساعات، أصبحت من عاداتي الجديدة بسبب هذا الحجر.
يهاتفني صديقي. يعرض عليّ مغامرة لكسر الحجز: جولة في السيّارة في شوارع النبطيّة الضيّقة.
أرى النبطية بعد طول غياب.
نمر في شوارعها.
كأنني أشاهدها للمرّة الأولى.
كأنني الآن عدت من بلاد الاغتراب.
سوق الخضر القديم خفّت ضوضاؤه. بعض كبار السنّ من الباعة هنا، قرب صناديق الفاكهة. بعض الشبّان الذين كانوا يتجولون على الدراجات النارية يقفون قربها.
يلفت نظري رجل سبعيني يجول في الشارع. يرتدي طقماً رمادياً من موضة عتيقة، لكنه جديد. كأنه هجره سنين كثيرة، وتذكره اليوم، فارتداه وجاء إلى السوق، كما كان رجال النبطية يفعلون من زمان نهارات الأحد.
يغطّي الرجل وجهه بكفه لاتقاء فيروسات كورونا.
قرب البنك السويسري اجتمع أربعة من كبار السنّ. أقول في نفسي: ربّما هو وقت الفسحة من كورونا.
الشوارع شبه خالية. ربّما أجمل ما في الأمر أنّه لن نتكبّد هم البحث عن مكان لإيقاف السيارة في شارع محمود فقيه.
أعود إلى منزلي. أشاهد جيراني في المبنى المجاور. يجتمعن عصر كل يوم في جلسة نرجيلة تحت شجرة الكينا. أصبحت هذه الفسحة متنفسًا لهم. خصوصاً الأمهات.
أتذكر صديقتي، وهي أم لثلاثة أطفال. زوجة طبيب. وأصبح موعد عودته من عيادته وزيارته مرضاه في المستشفيات هاجسها الأسوأ على الإطلاق.
في القرى المجاورة للنبطية لم يتغير المشهد كثيرًا.
مهدي الديراني من يحمر الشقيف يخبرنا أن بلدته لم تكن تشهد اكتظاظًا قبل كورونا. لذا لم يختلف المشهد كثيرًا. يحاول مهدي تذكير الناس – على الدوام – بأهمية الحجر والمكوث في المنازل. يفعل ذلك من منطلق أنّه طالب صحافة، وعليه أن يمارس دوره في التوعية.
على الرغم من افتقاده لقاء أصدقائه، لا يزال مهدي يحتفظ بطاقته الإيجابية.
أما أنا فبدأت أفقد إيجابيتي.
أقوم بجولة على صفحات التواصل الاجتماعي. يلفتني فيديو من الأردن للمواطنين يغنّون من على الشرفات ليلًا. تجتاحني رغبة لإخراج رأسي من النافذة، لأصرخ عاليًا بأغنية “بنت الجيران”.
أعود لرشدي. أحدّث نفسي: لا تتهوري، ستنتهي هذه الأزمة. لكن لن ينسى الجيران أنكِ أقمتِ حفلة من خلف نافذتك في الثالثة فجرًا!