ظِلّان على رصيف بيروت البحري

كأن البشر انكفأوا عن حافة الأرض، عن المدينة والشوارع والساحات

9 أبريل 2020
ظِلّان على رصيف بيروت البحري
محمد أبي سمرا
محمد أبي سمرا
أن تفقد الحياة نظامها وإيقاعها. أن تصير تشبه الرمل. بطعم الرمل والنوم والذبذبات الصامتة في ضوء الشاشات المنبعثة منها وشوشات رملية في العيون الشبيهة بالنوافذ العمياء في النهار والليل.

الكمامات على الأفواه.

الأيدي أراملُ العقم. والثياب ترمّلت في عتمات الخزائن وعلى المشاجب وأجسام أصحابها.

أن يتلاشى التمييز بين ثياب البيت والشارع والليل والنهار والأمس واليوم واليقظة والنوم.

أن تمّحي الأسماء والأشياء والناس والأماكن والجهات، أو تتساوى. الأمس مثل اليوم والغد وبيانات المستشفيات التي اختصرت خرائط العالم.

أن تصير الحياة ملساء، وكذلك الزمن والوقت.

أن تخلو اللغة من الأفعال الماضية والمضارعة والمستقبل.

أن تصير السماء فسيحة فسيحة، ومقفرة بأزرقها السماوي الصافي فوق زرقة البحر الكحلية، تتمايل صفحتها بهدوءٍ ربيعي مريض يوزّع جماله في الطبيعة والمدن وعلى الجبال البعيدة.

أن ينبت عشب بين بلاطات الأرصفة.

أن تُبصرَ هذا العشب، فتتخيّله رمداً في أهداب عيون سقطت رموشها على الأرصفة ونبتت بين البلاطات. وتخاف أن تدوس العشبَ أقدامُ عابرين مكمّمين خوفاً من ذرات الوباء.

****

أن تجوعَ فجأةً إلى تجارةِ الفحم والحديد في أزمنة غابرة متخيلة. أن تتخيل نساءً تحبل في القطارات والمناجم، وتلد في دورات المياه.

أن تجوع َإلى طعن طفلٍ في عينيه وعنقه، إلى تدمير مدينة وحرث مقبرة.

أن تبصرَ دمعة واحدة في صحن فطور الصباح الفارغ. ثياباً تَعتقُ على حبل الغسيل. زلال بيضٍ يندلق من محاجر عيون يملأ فجَواتها قطن أسود تخرج منه نمال بيضاء تقتتل على حبوب حنطة ينزُّ منها أنين تسمع أصداؤه في ظلام شارع طويل.

****

أن تمشي كظلٍّ أو ظلين وحيدين على رصيف كورنيش بيروت البحري بين عصافير وقطط ويمام.

أن تُبصرَ نثار قمح على بلاطات الرصيف. أن يَعبر متشرد ومتشردة، بلا صوت ولا التفات. أن تكون الأشياء في منتهى الوضوح والجمود والتكرار، مثل بلاطات الرصيف المستطيلة وأشجار النخيل.

أن يكون الهواء ممسوساً بالرعب الخفي. أن تتربّص قطة برأس دجاجة مقطوعٍ مسلوخ الجلد. أن تجوع القطط وتنعدم حركاتها، فلا تقوى على الاقتراب من وعائين بلاستيكين بهما حليب وماء، وضعهما أحدهم قرب جذع نخلةٍ على الرصيف.

أن تزقزق العصافير مدركةً أن البشر انكفأوا عن حافة الأرض، عن المدينة والشوارع والساحات، وصاروا ظِلالاً تختنقُ، تجِّفُّ، وقريباً تنبعثُ مخلوقاتٌ غريبة من ظلالهم.

أن يمشي الظلان متباعدين بخطى سريعة، وفي ذاكرتهما لغة خرِست وخلت من الأصوات والأفعال والأسماء، وتجمّدت في الأشياء الجامدة. مثل البصر المشرع على أفقٍ جامد.

أن يتخيل أحدُ الظلين لمسات بشر على معدن السياج البرونزي الطويل على حافة الرصيف البحري. أن يتحادث الظلان ببقايا كلمات قليلة، عن الأبواب الموصدة، عن الأبنية والأبراج الصامتة.

أن يبصر أحدهما امرأة خلف نافذة عالية في بناية من زجاج. امرأة تجلس على كرسي وتكلم البحر هاتفياً. أن تزقزق العصافير. أن يحط طير غريب على مصباح عمود الإنارة. قد يكون غراباً، وربما قبّرة غريبة تائهة، نسيت جنسها واسمها، وفقدت ذاكرتها. مثل المرأة الشريدة يطردها عن مقعدٍ موظف الأمن بثيابه السود وعضلاته المنتفخة برياضة كمال الأجسام. فلا تهابه المرأة الشريدة المقيمة في عبّ نخلةٍ قصيرة تيبّست سعفاتها الخفيضة خلف مقعد الرصيف.

أن يمشي الظلان في الاتجاه المعاكس، فيلتقيان بوجوه ظلالٍ قديمة مثلهما. يقولان كلمات قليلة عن وجوه الظلال، عن المدينة، عن الزمن الأملس، ويختفيان.

****

أن تخرج من البيت، فتُفاجئك رغبة في قتل ظلٍّ في الشارع. أن تعود إلى البيت وتغمض عينيك لتنام. أن يصير البيت كابوساً، عدوّاً أليفاً، كاليدين، كالصيدليات، كالكمّامات على الأفواه.

أن لا تعود تعلم كم عمرك ومن أنت، لماذا أنت هنا، وإلى أين تذهب؟ أتقفُ أم تقعد أم تنام نوم حجر في قاع بئر؟