حكومة حرب مقنّعة
اليوم، في هذه العزلات الكئيبة، يبدو زمن 17 تشرين نموذجاً للفرح ابتكره اللبنانيون في سعيهم إلى الانفتاح والتفتح الوطنيين، بعيداً من حسابات الطوائف والمذاهب والأحزاب والكانتونات والزعامات.
ولتحطيم ذلك النموذج وتدميره، عملت القوى والزعامات الطائفية على استعادة زخمها. وهي نجحت أثناء انتفاضة تشرين ذاك في اختراق الانتفاضة وشق صفوفها وشرذمتها، وصولاً إلى السيطرة عليها، والسطو باسمها على الحكومة الجديدة التي تدّعي أنها حكومة الثورة أو الانتفاضة. وهي في الحقيقة ليست سوى حكومة حرب مقنّعة عليها.
وحكومة انتقام
أتاح دفن 17 تشرين عودة الحزبيات الطائفية إلى متاريسها في صراعاتها السياسية. وعاد الانقسام بين ما يسمى موالاة ومعارضة. واختفى من المشهد ما كانت انتفاضة 17 تشرين انجزته من تخالط وتداخل بين فئات من اللبنانيين، ليعود الانقسام الأهلي إلى ما كان عليه في مرحلة 8 و14 آذار، على الرغم من انتهاء تلك المرحلة.
جاءت حكومة الموالاة هذه، حكومة حسان دياب التكنوقراطية المزيفة، في وضع سياسي حرج، لتعمل على وضع سياسات وخطط اقتصادية ومالية هدفها، قبل الاصلاح، الانتقام من القوى التي كانت ممثلة في الحكومة السابقة، ولم تشأ المشاركة في حكومة حسان دياب. وهي بهذا المعنى حكومة تصفية حسابات سياسية مع الخصوم والاقتصاص منهم. وهذا ما تسميه الاصلاح المنشود.
بدأ ذلك في آلية تشكيل الحكومة، والعناوين التي طرحتها، وصولاً إلى التشكيلات القضائية وتعطيلها، والتعيينات المالية وتأجيلها، فإلى الخطة الاقتصادية والهيركات المقترح.
القوى الحزبية والسياسية والطائفية تتفاهم بالإيماءات والإشارات. الهواء الذي تتنفسه لا تفصله عن السياسة. كل خطوة يُفترض أن تخطوها الحكومة، تنظر إليها تلك القوى من منظورها السياسي الفئوي المغلق. والحكومة برئيسها ومكوناتها وداعميها، لا يخفون ميلهم (وخصوصاً التيار العوني وحزب الله) إلى تحميل مسؤولية ما جرى للبنان منذ ثلاثين سنة لفريق واحد، هو الفريق الذي أصبح خارج حكومة دياب الحالية.
إفقار “بني معروف”
وفق هذا المنظار، تقرأ القوى المعارضة الخطة الاقتصادية والهيركات باعتبارهما كناية عن فتح أو كشف ملفات يستهدفان فريقاً سياسياً بعينه. وهذه ليست سوى أساليب إنتقامية تحت ستار واهٍ يسمونه الاصلاح المالي والاقتصادي.
وفي هذا السياق غرّد وليد جنبلاط مصعّداً، معلناً رفض الخضوع لمحاولات التطويع التي يُراد تحقيقها منذ اتفاق 17 أيار 1984، ليستمر الرفض ما بعد إسقاطه وحتى اليوم: “لن نقبل بأي حجة لتطويع بني معروف ومحاولة إذلالهم، أياً كانت الظروف”.
أطلق وليد جنبلاط رسالته التحذيرية، معتبراً أن ما يجري يهدف إلى تطويقه ومحاصرته. فهو الوحيد الذي يستمر في المواجهة. فجعجع يبتعد وينأى بنفسه عن المواجهة الجدية. والحريري أيضاً لا يبدو أنه مستعد وجاهز لخوض غمار معارضة جدية وحقيقية. على الرغم من أن موقف جنبلاط حفز الحريري على إطلاق موقف يتيم لم يرفقه بأي خطوة عملية.
يعرف جنبلاط جيداً عقلية ميشال عون. فهما كانا أعداء حروب في ثمانينات القرن الماضي، على خلاف الحريري الابن الذي لا خبرة لديه بأحقاد عون والعونية.
فعون لا ينام ولا يغمض له جفن على ضيم، ويسعى دوماً لتحقيق ما يريد. ولذلك لا مجال عنده للمهادنة.
قرأ جنبلاط ما يجري على أنه استهداف موصوف له ولدوره. وبعد كل محاولات تطويعه ومحاصرته التي فشلت في مراحل سابقة، يأتي اليوم ظرف جديد لضرب حاضتنه الشعبية بالإفقار والتجويع، تحت عنوان ما يُسمى هيركات وتحميله مسؤولية السنوات الماضية.
حرب جبل جديدة
بعد تلك التغريدة، تحرّكت اتصالات باتجاهات مختلفة، وصلت إلى حدود إيصال رسالة مباشرة إلى رئيس الحكومة حسان دياب حول ما يفعله والسياسة التي يتبعها.
الخطوط العريضة للرسالة التحذيرية تنطوي على عرض سياسي كامل لعمل الحكومة منذ تشكيلها، وهي لم تتمكن من إنجاز أي ملف من ملفاتها.
فكل ما طرحته عادت وتراجعت عنه أو جمدته.
ومن ما ألمحت إليه الرسالة: ما يجري في ما يسمى الخطة الاقتصادية، وما يترافق معها من كلام سياسي في الكواليس، يهدفان إلى ضرب مكونات سياسية أساسية في البلاد، وإلى الإخلال بالتوازنات.
وهذا لا يمكن السكوت عنه.
أما الاستمرار فيه فسيؤدي إلى انفجار طائفي، وليس فقط إلى انفجار إجتماعي. انفجار قد يعيد التذكير بمخاطر حرب الجبل ومساوئها. وهذا ما تتحمل الحكومة مسؤوليته، ومسؤولية ضرورة تجنّبه.
لذلك يجب مراجعة آلية عمل الحكومة، تحسباً من حصول الأسوأ والأخطر.
نفى دياب، أي سعي للانتقام أو الاقتصاص. لكن “الرسول” الذي أبلغه الرسالة كان موقفه حاسماً: ما يجري يؤدي إلى حرب أهلية في لبنان، إذا لم تحسن الحكومة قراءة التوازنات، وتستمر في محاولة القفز فوقها.
وتلقى الرجل وعداً من دياب بأن يعلن بنفسه التراجع عن خططه من على طاولة مجلس الوزراء يوم الثلاثاء أو يوم الخميس، وخصوصاً عن الهيركات بما يمثله من استهداف لقوى سياسية.
طبعاً هذا لا يعني أن المواجهة السياسية ستقف عند هذا الحدّ، بل ستكون هناك صولات وجولات جديدة في المستقبل، تبقي الوضع السياسي في حال توتر مستمر.
وقد لا ينتهي ذلك إلا بصدام سياسي يؤدي إلى أزمة عميقة، أو إلى انفجار شعبي عارم، بعد السأم من هذه السياسات العقيمة.. وربما، على أمل أن تستعيد قوى 17 تشرين المبادرة من جديد.