سدّ بسري: عن سلطة تتحدى الجغرافيا والتاريخ والبشر

حملات الدفاع عن المرج مستمرة فالناشطون يدافعون عن موطنهم

18 أبريل 2020
سدّ بسري: عن سلطة تتحدى الجغرافيا والتاريخ والبشر
نادر فوز
نادر فوز
في السلطة، قوى لا تزال متمسكّة بتنفيذ مشروع سد بسري. لم تقنعها الوقائع العلمية بعدم جدوى هذا المشروع، ولم توقفها كل الدراسات الجيولوجية والاقتصادية التي أعدّت في هذا الملف. لم تلفت إلى ناشطات وناشطين، علّقوا أجسادهم على شجر مرج بسري، قائلين “حياتنا من حياة هذه الأشجار والطبيعة”. حتى الفضائح التي لاحقت الشركة الإيطالية التي تم تلزيمها تنفيذ قسم أول من المشروع، لم تؤنب ضمائر المتمسّكين بخيار السدّ. وردّهم أنها فرصة ذهبية لخدمة كل اللبنانيين وتأمين المياه إلى كل لبنان. وهذه كذبة أخرى كشفت التقارير زيفها.

في السلطة، من يريد أن يتصوّر إلى جانب مشروع ضخم. المطلوب نسخة أخرى من حافظ الأسد وسد الفرات، مماثلة لجمال عبد الناصر والسدّ العالي. سيطلّ علينا زعيم آخر، خالد أيضاً على الأرجح، ليدشّن مشروعاً آخر ومن حوله كورس يغنّي “قلنا حنبني.. ودي إحنا بنينا سد بسري”. لكن لا يأتي الكورس على ذكر الاستعمار وهزيمته، ولا على أيدي العمال التي فَعَلت، ولا كون المشروع تمّ بأموالنا. هنا الاستعمار أقرَضنا، لنلزّم شركات أجنبية المشروع، ليفقد المزارعون أراضيهم، وبلدنا مساحة محشوّةً بالمواقع الأثرية والمساحات الطبيعية. كل هذا من أجل إنجاز مزيّف والتصفيق له على نغم أغنية سياسية لا بد أنّ تأتي. السلطة، في مشروع بسري، تتحدّى التاريخ والجغرافيا. تتحدّى الطبيعة. تواجه رغبة الناس ولقمة عيشهم. فهذه طبيعة السلطة والاستئثار فيها أصلاً.

معارضة وأوليات
تضخّمت في الأيام الماضية الأصوات السياسية الاعتراضية على إقامة مشروع سد بسري. زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي فتح النار على المشروع، وجاد نواب من كتلة اللقاء الديموقراطي في انتقاد السدّ. طلب جنبلاط سابقاً، ونواب الحزب الكتلة لاحقاً، بإعادة النظر بالأولويات المالية وتنفيذ المشاريع في ظل الأزمة الاقتصادية وظروف فيروس كورونا. وانضمّ النائب أسامة سعد إلى حركة الاعتراض، مطالباً بإعادة تشكيل الأولويات أيضاً. وكذلك فعل نواب من حزب الكتائب، وهم سبق أن عبّروا عن رفضهم تنفيذ المشروع اثر انضمامهم إلى ساحات الثورة.

ومع كل هذا، جاء موقف البنك الدولي المقرض الأساسي لتنفيذ السدّ ليؤكد على “انفتاحه على اقتراحات الحكومة اللبنانية حول كيفية استخدام المحفظة الحالية من ​القروض​، بما فيها الأموال غير المنفقة ضمن مشروع سد بسري، بشكل أكثر فعالية للاستجابة لاحتياجات ​الشعب اللبناني​ الملحة والناشئة حديثاً”. رمى الكرة في ملعب الحكومة اللبنانية، والأخيرة أمام اختبار أخير. ويبقى أنّ التعويل فقط على وعي الوزراء والأحزاب التي شكّلت هذه الحكومة، غير مجدٍ. لأنّ هذه السلطة تبحث عن تحقيق الإنجازات بأي ثمن كان، وبأي حجم كان، بدءاً من توقيف سارق وصولاً إلى قياس المسافة بين الصحافيين، مروراً بتكسير خيمة للمعتصمين في ساحات الثورة.

وعي شعبي
قلّة الإدراك الرسمية يقابلها وعي شعبي كبير. هذا ما تقوله مسؤولة قسم الصحافة في المفكرة القانونية، الزميلة سعدى علوه، التي نشطت وتنشط في الدفاع عن مرج بسري. تقول علوه لـ”المدن” أنّ “الوعي نشأ بشكل كبير لدى أهالي الشوف خلال النشاطات والندوات والاعتصامات التي تمّ تنظيمها دفاعاً عن المرج”. فهم الأهالي أنّ هذا المشروع، وارتداداته المناخية والطبيعية والاقتصادية، سيقضي على الجنّة التي يعيشون بها. أما انضمام بعض الزعامات إلى معارضة المشروع، فتحدّده مجموعة من الأمور. منها كون هذه الزعامات شعرت فعلاً بالمعارضة الشعبية للمشروع السيّء، وقد يكون أيضاً أنها تريد تلافي تحمّل فشل سياسي وتنفيذي جديد. أو ربما تسعى إلى تحقيق بعض المكاسب الأخرى نتيجة المهاترات. كل هذا وارد، ومستقبل المشروع يكشف كل شي.

بسري المخفية
لم يسمع كثيرون من اللبنانيين بمرج بسري قبل الإعلان عن المشروع. من اللبنانيين من لم يزر المنطقة بعد أساساً، ومنهم من انضمّ إلى قوافل الناشطين والسيّاح الداخليين لاكتشاف هذا المكان. ومن لم تُسعفه حشريته لزيارة المرج، يراجع كل ما يدوّن حول المكان، فانضمّ بتلقائية إلى كفة معارضي مشروع السدّ لكونه يأتي من يد سلطة فاسدة. وتقول علوه في هذا الإطار إنّ “هذه الحملة هي أكثر حملة تمّ العمل عليها من جهة الدراسات والعلم، فأنتجت مواد ضخمة عن التكوين الجيولوجي والزلازل والموارد الطبيعية”. فكان ردّ الناشطين علمياً بالكامل، فضح زيف ادّعاءات أصحاب المشروع على كل الأصعدة، في عدم دقة الأرقام التي تطرحها السلطة ولا التكلفة ولا نجاح المشروع أصلاً.

مخزن اقتصادي
إن تمّ إنشاء السد، سيخسر لبنان أكبر سهل زراعي في جبل لبنان، وهو الوحيد في المحافظة أساساً بحسب ما تؤكد علوه. وفيه يتمّ إنتاج 50% من حاجة لبنان من الفاصولياء، و65% من إنتاج لبنان من الفراولة، ومنتج أول ووحيد مع حرج بكاسين للصنوبر الجوّي في الشرق الأوسط. كل هذا يساهم تقريباً في 125 مليون دولار كعائدات للقطاع الزراعي في لبنان. فتشكّل المناطق الزراعية 57% من مجمل مساحة المرج (6 مليون متر مربع). واللافت هنا أنّ السلطة وأحزابها تدعو الناس في ظروف كورونا إلى الزراعة والاستفادة من المشاريع الزراعية لتلبية حاجاتهم، وإذ بها تنهش أكبر السهول. أما المساحة المتبقية فهي إما ملاجئ للطيور المهاجرة من اللقلق والبجع على مختلف أنواعها، أو أماكن أثرية تعود العصر البرونزي أو الحقبات الفارسية والرومانية والبيزنطية، إضافة إلى فترة حكم المماليك والعثمانيين. فيها معبد روماني وكنيسة بيزنطية وجسور وكنيسة. لكن السلطة تريد أن تمحو كل هذا. وكأنها تتحدى التاريخ.

تحدّي الجغرافيا
وتنوي السلطة أيضاً تحدّي الجغرافيا. فمرج بسري يقع بين مثلث جيولوجي خطر، فالق روم وفالق بسري وكسر نيحا. مثلث برمودا محلي تبحث السلطة عن إضاعة أموال اللبنانيين فيه، من الديون طبعاً، لتسجيل إنجاز سياسي. وفي الأساس، بحسب الدراسات العملية يبلغ عمق الترسّبات في المرج بين 80 و100 متر، وهو ما يحكم السد المزعوم بالفشل. علوه، التي أعدّت ملفاً من 44 صفحة عن المرج، تقول إنّ “هذه المنطقة عائمة على الماء أساساً بحسب الدراسات وسبق أن وقعت أكثر من حفّارة مياه لكون طبيعة الأرض لا تحتمل”. يشير ذلك إلى احتمال غرق بسري وارد. لكنّ السلطة أقوى من الجغرافيا، وقادرة على هزيمتها!

كلفة وادّعاءات
تشير الدارسات التي أعدها المدافعون عن مرج بسري إلى أنّ كلفة إنشاء هذا السدّ ستتجاوز قيمتها مليار ومئتي مليون دولار أميركي. أمّا الحكومة فتسوّق لأرقام أدنى طبعاً، بهدف تمرير المشروع وتصوير نفسها في موقع مقدّم الخدمات والإنجازات للناس. أرقام كثيرة يشير إليها المسؤولون. فيقول رئيس الجمهورية ميشال عون إنّ تكلفة المشروع هي 340 مليون دولار. أما الوزير ريمون غجر فيقول إنّ الكلفة هي 875 مليون دولار، في حين يؤكد مدير المشروع إيلي موصللي أنه التكلفة أقل من 600 مليون دولار. ملايين تتطاير، ديون تتراكم، مزارعون يخسرون أراضيهم، إنتاج زراعي يتضرّر، بيئة وآثار تتبخّر، خطر زلزالي يترصّد، لكن لا ضرر بكل ذلك. المطلوب صورة السدّ وإنجازه.

لكن في بسري، لا تزال حملات يقودها ناشطات وناشطون يصرّون على التمسّك بهذه الأرض. لا شيء إضافي أمامهم ليخسروه، فيدافعون عن هذا المرج كأنه موطنهم. “موطني” مقابل “السد العالي”، نشيد الانتماء والنضال في مواجهة نشيد الدعاية السياسية، هذا هو الواقع اختصار.