والرحمة شاملة إلى يوم الدين. “إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون” (الأنفال 2). وهم صابرون في البأساء والضراء، الذين صدقوا واتقوا وتلوا من كتاب الله العزيز “ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين” (البقرة 177). وتلوا أيضا “ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين” (البقرة 155). إن المعاني السامية التي تختزنها الآيات المباركة، بل مجمل معاني الكتاب الكريم، مستقرها في القلوب والعقول والسرائر والضمائر، لذلك، فإن تقلبات الدنيا، وعواصف الأيام، وصعوبات الزمان مهما اشتدت، هي حوافز في وجدان المؤمن ليستكنه معاني الصبر والرضى بل والإيثار في مجال المبادرة لأفعال الخير والعطاء تجاه كل متعثر مضاق. والشهر المبارك في هذا السياق هو مجال ارتحال ميمون في رياض اليقين إذ يكون المؤمن الموحد في ميدان الوقوف مع مقاصد الحق في حقل العمل والفعل، واستدراك الأمر بكل ما اعتقده وآمن به، ليكون في عين الحياة التي تشهد على شجاعة الإيمان، وعلى محض الثقة بالعدل والحكمة الربانية التي لا تدرك أسرارها عوارض الأفكار والخواطر.
إن الدين علمنا منبها إلى ثوابت القيم والمثل الإنسانية، وإلى بركة الصلاة والزكاة والصوم تتهذب بها النفوس لترقى إلى ما شاء الله تعالى لها من كرامة وإفضال. وهذا الأمر يدعنا نرى بوضوح لا سبيل إلى الالتباس فيه أن حال الأمم التي نهشها الفساد، وعطلها التنافر والتنازع والخصومات، ومزق قلبها نزوع هذا وذاك إلى بلوغ المصالح الضيقة ولو تنافت مع مصالح الوطن العليا، هي أمم لا يستقر لها حال، ولا يقر لها في مؤسسات حكمها قرار. وكم يبالغ القاعد فوق كرسي المسؤولية العامة مهما صغر شأنها أو كبر، في ارتكاب الخطأ بل وما هو أشد فظاعة من الخطأ حين لا يحتكم إلى العدل والإنصاف، وحين لا تسمو به أخلاق المسؤولية العامة إلى مقام الترفع عن دنايا الأمور صونا للبلد، ووفاء لمضامين معاني الخدمة العامة، وانسجاما مع حقيقة التمثيل الشعبي الذي لا يجعل المسؤول سلطانا في موقعه بل ممثلا عن الأمة ووحدتها باحترام دستورها وقوانينها وشعبها من دون أي تمييز بين مواطن وآخر إلا بقياس الأمانة لمفهوم المواطنة. ونأسف بأننا نرى إلى حالنا اليوم وما راكمته الأزمات من فجوات بالغة الخطورة في كل المستويات: السياسية والمالية العامة والاجتماعية والخدماتية، حتى بتنا في واقع نبذ الأصول السياسية التي جعلت من لبنان وطنا، أعني الميثاقية وقواعد العيش المشترك والمشاركة الفعلية في ديموقراطية لها قلب نابض وغير مقتصرة على معسول الكلام العقيم.
ها هو العالم اليوم أمام أزمات لن يدرك عواقبها أحد في المدى المنظور. تنطوي كل دولة داخل حدودها منكبة على البحث المحموم عن معالجات لأزمة الوباء الراهنة، وعن أفكار استباقية لتدارك انهيار الاقتصاد، ولتدارك الأزمة الإجتماعية التي تنذر بالحرائق نتيجة انكشاف اللامساواة المخيفة بين أوضاع المواطنين إلخ… إن التعويل على الدعم الخارجي من أي جهة يمكن أن يأتي لن يكون له أي أثر يذكر، مع صعوبة حصوله فعليا، طالما البلد في حالة ضياع فعلي. ومرد هذا الضياع إلى دلالة تضييع الوقت دون الرسو حتى الآن على أي حد أدنى من طرح مجد في مسائل حيوية أهمها خطة الإصلاح وكل ما يتعلق بها من أمور وشجون، بل نرى المضي قدما في البلبلة والمحاصصة والكيدية والإنكار. لقد أثبتت مواجهة الوباء في لبنان أن الجهود المشتركة، بدءا من وزارة الصحة، مرورا بفاعليات المناطق والبلدات، والتفاف اللبنانيين بمعظمهم لنجدة الطواقم الطبية والمستشفيات، وأيضا لمساعدة ذوي الدخل المحدود بل والمنقطع نتيجة الظروف وما إلى ذلك، هي النهج الذي يصنع الأمل، بل ويحققه. وأقصى أمنياتنا اليوم، أن تمضي الجهود قدما لمجابهة المخاطر الكبرى في مجالات المالية العامة والاوضاع الاجتماعية وتزايد أعداد العاطلين عن العمل بل والذين يهددهم خطر الجوع فعلا وواقعا، عبر خطط حكومية واقعية ناجعة لا تظلم شرائح من المجتمع، وبالالتفاف حول مشاعر وطنية جامعة بها يكون لبنان أو لا يكون.
نسأل الله تعالى أن يشمل أهالينا وشعبنا ووطننا وأمتنا وشعوبها بالرحمة وهو الرحيم، وبالرأفة وهو الرؤوف، وبالسلامة وهو السلام، وبالعفو وهو العفو، ونسأله أن يجعل أيامنا في رمضان المبارك أيام خير وائتلاف وزكاة ويمن وبركة وصبر ورضى إنه هو الحليم الكريم، السميع المجيب، لا إله غيره ولا معبود سواه”.