الحركة الشعبية اللبنانية المتجددة

مواجهات في صيدا

30 أبريل 2020
الحركة الشعبية اللبنانية المتجددة
أحمد جابر
أحمد جابر

تاريخ 17 أيار من العام 2019 ليس يوماً منبتّاً من تاريخ سابق، وليس يوم تكرار جامد يستعيد ما عرفته الحركة الشعبية اللبنانية من أيام، هذا في صيغة النفي الوصفي، أما في صيغة الوصف الواقعي والوقائعي، يشكل التاريخ المشار إليه يوم انطلاقة حاشدة، تنتسب انتساباً واضحاً إلى حركة شعبية لبنانية كفاحية، طبعت التاريخ اللبناني بطابعها في حقبات زمنية متوالية، وتحمل في الوقت ذاته الطموح  إلى تجاوز الحصيلة العامة التي وصلت إليها الحركة الأم، تجاوزاً تجديدياً إيجابياً، مما يجعل تاريخ التحرك الشعبي الجديد لحظة اتصال لا يمكن إنكاره أو التنكر له، ولحظة انفصال متدرج ضروري، لا يمكن تحقيق التجاوز الإيجابي من دونه.

الاتصال جزء من تعريف الحركة ومن تحديد هويتها، والانفصال هو مسار تجديد يتوالى ويتراكم ويتفاعل، حتى يستوي المولود الموعود في بنيته الجديدة.

الربط بين ماضي الحركة الشعبية وحاضرها، ليس من شأنه تكبيل الحركة نحو مستقبلها، لكنه، أي الربط، يدحض المقاربات غير الواقعية التي تتوزع على تعريف حركة الشعب اللبناني الحالية تعريفاً إنبثاقياً، لا أول له ولا سيرة ولا مقدمات، وعلى تحديد ذات الحركة تحديداً “سوبرمانيا”، فتنسب إلى المشاركين فيها القدرة على تعديل التوازنات، وعلى قلب المعادلات، وعلى تغيير النظام اللبناني، من دون تقديم المعطيات وجردة الحسابات.

لقد نجم عن هكذا نظرات إلى حركة الناس، تسفيه كل تاريخ الحركة الشعبية والدعوة إلى استبعاد أبنائها.. الفاشلين، مثلما سادت لغة تقديس العفوية، ورفض الأشكال التنظيمية، وجرى التمييز بين الأجيال وليس بين الأفكار وجدواها، فصارت المعادلة جيل شاب في مواجهة جيل هرم، بدلاً من أن يكون التمييز بين أفكار بالية وأفكار راهنة، من دون التوقف أمام أعمار حامليها..

مصادر إفقار السياسة
تولى معظم جمعيات العمل المدني الترويج لكلام التحذير من تنظيم وتأطير الحركة الشعبية، وأشاع أهل العمل الجمعياتي أراء تشرح خطورة وجود مرجعية تقود الشارع، من خلال تنسيق وتنظيم واختيار أهدافه وشعاراته وأساليب عمله.

حجة “الجمعاتيين” أولئك، كانت رفض الأساليب التنظيمية السابقة التي اعتمدتها الأحزاب اللبنانية، لأن هذه الأخيرة منعت التنوع والاختلاف، وافتقرت إلى الآليات الديمقراطية في إدارة شؤونها.. هذه الحجة تتهافت أمام ضرورات التنظيم والتأطير التي هي من الأساسيات في العمل السياسي والاجتماعي، وتتهافت الحجة أيضاً، عندما تتكشف عن رفض مبدأ التنظيم والانتظام، لأن مبرر الرفض لا يتعدى ما وصل إلى أسماع الجمعياتين من صدى عن التجارب الحزبية.

لقد غاب عن ذهن الرافضين عموما، أنه لا يجب الخلط بين التنظيم وبين اختيار شكل التنظيم وآلياته، فإذا كانت السلبية صفة ملازمة لما رافق صيغ الأحزاب التنظيمية، فلتختر الحركة الناشئة ما يلائمها من أشكال التنظيم الإيجابية، وما يجنبها السلبيات التي رافقت تجارب أحزاب كان لها دورها في الحركة الشعبية، وما زالت على قيد الحياة، السياسية أو البيولوجية، في الظرف السياسي الراهن.

مع “مرجعية” العمل المدني اللغوية، عملت مرجعية تاركي الأحزاب وهاجريها والمهجرين منها، فهؤلاء نقلوا غضبهم من أحزابهم، وسخطهم على قيادة تنظيماتهم، وشعور الخيبة من تجاربهم.. نقلوا كل ذلك إلى الشارع المتحرك بصخب، ليجددوا دورة خصومتهم لبيئاتهم الحزبية، وليستدركوا ديمقراطيتهم التي فاتتهم بالدعوة إلى اعتماد أوسع أشكال الديمقراطية.. حصيلة المدنيين الحاليين، والحزبيين السابقين، كانت لاءات تجاوزت التنظيمية إلى السياسية، مما نتج عنه تخبط في الهدف والشعار والأسلوب، وهذا أنتج بدوره تشتيتاً للجهد، وتبديداً لقوة الحركة الشارعية، فكانت الحصيلة العامة غير إيجابية، وفي أكثر من مجال.

انكفاء الأحزاب
أضاف انكفاء الأحزاب سياسة تعطيل للسياسة، فاجتمع اللاسياسي الأصلي في جمعيات العمل المدني، مع السياسي المتروك من قبل الأحزاب السياسية، على تهميش مضمون السياسة في التحركات الاحتجاجية.

حصلت عملية تكيف للحزبيات المشاركة في الشارع، فحضرت جمعيات ومجموعات بأسماء متعددة، هي نتاج الأحزاب المتفرقة، وأذرعها الممتدة بين الفئات الاجتماعية والمهنية والنقابية والنسائية والشبابية المختلفة… حضرت شعارات هذه الأذرع وهتافاتها وخيمها، واختفت الأحزاب خلفها، واحتمت من تصنيف “العمل المدني” واتهاماته، بالذوبان ضمن نشاطاتها.

سلوك الأحزاب هذا، جعلها أجساماً ملحقة قولاً وممارسةً، ومحا الحدود بين ما هو من مهمة الحزب في السياسة الشاملة الواضحة، وما هو مطلوب من ” التشكيل” القطاعي المهني في الحزب، الذي يعبر عن مطالب القطاع وهمومه المباشرة.

حصيلة ذلك كانت سيادة لغة المدني ذي المضبطة الاتهامية، وعدم تجرؤ السياسي الحزبي على اختراق السقف المحدد له من قبل” اللاسياسي” المدني.. فكان أن وقعت الحركة الشعبية ضحية اختلاط الرؤى والأهداف والشعارات والأساليب والاستنساب والعشوائية… مما فتح السبيل أمام من أراد تسلقاً باسم “الثورة”، وأمام القاصر عن الفعل محلياً وآنياً، للهروب صوب شعارات ما فوق وطنية، أو صوب طرح مهمات داخلية غير ممكنة، في الراهن وفي المدى المنظور.

هذا المسلك الحزبي لم يقدم على مراجعته من قام به من الحزبيين، وهؤلاء هم المعنيون بالمراجعة، فالسياسة بأحزابها، ولا حياة سياسية من دون أحزاب سياسية، والسياسة لا تحال إلى جمعيات العمل المدني ولا إلى تشكيلات العمل النقابي، فهذه من مكونات كل حركة سياسية، وهي بعض من نتاجها في أماكن كثيرة، وبالتالي فإن مسؤولية الفشل والنجاح تلقى على عاتق من نشأ باسم السياسة، فدخل إلى معترك ميادينها.

سؤال أي أحزاب؟ سؤال مشروع؟ وهذا مثل سؤال أي جمعيات وأي نقابات؟، والجواب واحد: إن سوء أحوال ونتائج كل تلك المسميات، لا يؤدي إلى خلاصة إسقاطها من العملية الاجتماعية… الجواب عن المأزق التشكلي إجتماعياً يبدأ بسؤال: أي حزب وأي عمل مدني وأي تشكيل نقابي… في ظل الأوضاع الاجتماعية والسياسية الملموسة؟؟ ومن هنا يبدأ جواب البحث عن سؤال الجديد، كل جديد.

وفي الانتظار
حط وباء كورونا في لبنان، ففرض وما زال، فترة انتظار دخلتها الحركة الشعبية، وفترة استثمار بادرت إليها السلطة الرسمية.

على صعيد عام، تعريف الحركة الشعبية بالإنتظارية أمر مخالف لحركة الواقع، فالحركة يمكن لها أن تدخل في فترة ترقب ومراجعة حسابات عامة، أي إنها تكون في وضعية حراك يتناسب وظرفها الخاص، وتقتضيه الظروف المحيطة، هذا يعني حضور الصوت الشعبي بمقادير، وحول مواضيع محددة، ووفقا لحسابات حركة مدروسة… ما حصل مع الحركة الشعبية في الظرف الكوروني، قارب الثبات في المكان، والإحجام عن كل أنماط الحركة، حتى النمط الصوتي والبياني منها.

وما كان مستغرباً في هذا المضمار، هو اللجوء إلى عبارات تهدد وتتوعد التشكيلة الحاكمة والمتحكمة، ما إن تنجلي غمامة الوباء الكثيفة. هذا يقع في باب الوهم، فتارك مكانه الشاغر لن يجده شاغراً عند عودته إليه، فإن لم يشغله وافد جديد احتل مساحته الغبار.

هذا مأزق تخيل يضاف إلى عدد من مآزق التخيلات والأوهام. من ذلك قبل فترة، وهم السيطرة على مفاصل الوضع المحلي، ووهم انتقال الإمرة إلى الشارع الذي بات قادراً “على السماح وعلى المنع”، ومن الوهم حالياً، رفع إصبع الزجر في وجه “معارضة الحكم” من داخله، ومطالبتها بعدم النزول إلى الشارع حتى لا تسرق “مدخرات” تعب الحركة الشعبية.

ما ورد ذكره يصوب خارج مضمار المطلوب شعبياً، فالأمر كان وما زال، مبادرة الشعبيين إلى الإدلاء بوضوحهم، أهدافاً وسياسات وبرامج وخطط عمل، أي يقوم بما هو مطلوب منه في مواجهة ما يقذف في وجهه من قبل الحكم بكافة أطرافه.

حتى الآن لا يبدو الشعبي مستعداً ومؤهلاً للقيام بواجباته، فمتى سيقوم بذلك؟ وهل يستطيع القيام بذلك؟ وهل يرغب بتحمل تبعات ما هو ضروري ومطلوب لاستئناف تحركاته؟

الحزبيون هم المقصودون أولاً بالسؤال، من كان متابعاً في تنظيم، ومن كان خارج الانتظام ضمن أطر حزبية.

المصدر المدن