الإنكار وسيلة للدفاع عن النفس. وأنت تهوي من الطبقة العاشرة نحو رصيف الشارع سينقلب ذعرك الشديد إلى إنكار: لن أموت، سأنجو، بضعة كسور وأظل حيّاً.
بعضهم يصل بهم الإنكار إلى الإغماء، الغياب عن الوعي قبل الصدمة، قبل أن تتحطم جمجمته. البعض الآخر سيصدق خاطرة أنه في كابوس وسيصحو منه بعد لحظة. آليات الدفاع عن النفس في حال العجز، تتمحور إما على الإنكار، وإما في حال الـ”تروما” الشديدة، يلجأ الدماغ إلى فقدان الذاكرة أو تزييفها.
هذا ما يجيده اللبنانيون ويدمنون عليه منذ سنوات. فقدرتهم على مواصلة الحياة والإقبال عليها مستمدة من فعالية الإنكار إلى حد الإغماء أحياناً، كما من فعالية فقدان الذاكرة أو التلاعب بها في أحيان أخرى.
في مضمار الإنكار والغيبوبة ولعبة الذاكرة، لدينا رئيس من الصعب مجاراته. قال بكل ثقة “هذا يوم تاريخي” في معرض إقرار ورقة تبشّر اللبنانيين بعقود من الشحّ والفقر، مدعياً أنها أول مرة توضع فيها “خطة”! مع العلم، أن رفيق الحريري وقبل اغتياله بسنوات هو واضع “خطة النهوض الاقتصادي”، ثم أن مؤتمرات ومقررات باريس 1 و2 و3 وصولاً إلى “سيدر” هي خطط. وبالطبع، لن نساجل جوقة “الثلاثين سنة الماضية” بكل ما تحمله العبارة من شبهة الغوغائية والاعتباطية.
سندّعي أن لا مشكلة في ذلك، ونساير “الجوّ العام”، ونذهب إلى مشكلة جدية وأخطر. هناك انتفاضة شعبية، خفتت في مطلع السنة ونامت في شهور كورونا، وتستيقظ الآن بتكاسل. هذه الانتفاضة هي أيضاً مصابة بنزعة الإنكار للواقع، للماضي وللحاضر.
لنطرح الفرضية التالية (شبه المستحيلة): نزلت أغلبية ساحقة من المسيحيين والسنّة والشيعة والدروز، إضافة إلى “المجتمع المدني” و”المواطنين اللاطائفيين”، واحتلوا الشوارع والجسور والساحات، وأسقطوا الحكومة.. ثم أسقطوا رئيس الجمهورية، ومن بعدها استسلم مجلس النواب، وأقر قانون انتخابات مثلما يحلم به أشد الثوريين ثورية، وجرت انتخابات مبكرة، وفاز بها ممثلو الانتفاضة فوزاً ساحقاً.. واعتزل السياسة كل الذين استهدفهم شعار “كلن يعني كلن”. فما الذي سيحدث؟
منعاً للحيرة، الجواب البديهي، وعلى افتراض أن “حزب الله” كان طوال كل هذه المجريات والتطورات مكتوف الأيدي، متفرجاً، سنراه في تلك اللحظة، أي عندما ستبدأ الاحتفالات بالنصر، وقد رفع إصبعه.
هنا، لا يعود فقدان الذاكرة ولا التلاعب بها، ولا الإنكار ولا الغيبوبة نافعاً.. هذا الحزب يتفنن بمنعنا من نسيان أفاعيل إصبعه المرفوعة. سيكرر إنزال “التروما” بدماغنا وسيلقننا درساً يشبه الدروس الأولى للأطفال عن مساوئ اللعب بالنار. ببساطة، ستذهب الثورة إلى الحجر الصحي أو إلى حرب أهلية من طرف واحد.
هكذا نعود إلى آلية الدفاع عن النفس، إنكار ما نحن فيه. فقدان الذاكرة.
وما محوناه من ذاكرتنا، ومحاه الرئيس “القوي”، أن لبنان هذا شريك رسمي في المقتلة السورية، وجزء لا يتجزأ من “محور الممانعة”، وبلد منبوذ عربياً ودولياً، ولديه حزب حاكم، عنيف ومتعصب ومذهبي وعسكريتاري. وهذا بلد لا يشبه على الإطلاق ما يظنه و”يتذكره” اللبنانيون. هذا ليس ذاك الـ”لبنان” الذي تتخيلونه.
ذهولكم الملطخ بالحماقة من العقوبات غير المعلنة، التي تجعل بلدكم كما كوريا الشمالية وسوريا الأسد وفنزويلا وإيران، وها أنتم قبل أشهر قليلة كنتم تسوحون في باريس أو اسبانيا.. مرده إلى إنكاركم ما آل إليه بلدكم، شيئاً فشيئاً منذ العام 2006 وخياراته الانتحارية المنفوخة بالفتوحات من معبر البوكمال إلى مدينة حلب وأرياف إدلب، وصولاً إلى “العهد القوي” الذي جعل يوم إعلان إفلاس لبنان يوماً تاريخياً، لا ينقصه الآن سوى “انتصار إلهي” جديد.
ويا لوضاعة من يسأل عن الدولار.