لا أحد يعرف ماذا يمثّل بهاء الحريري. يظنّ الرجل أنه يمتلك اسماً ثلاثياً يغني عن هذا التعريف بمجرّد أنه نجل رئيس الحكومة التاريخي رفيق الحريري. ويُخيّل اليه أنه بوسعه، بعد 15 عاماً، إعادة إنتاج اللحظة التي منحت شقيقه سعد الحريري زعامة الحريرية، ولم تتطلّب معرفة بسعد، الشاب الثلاثيني، الذي يشبه شباب أغلفة المجلات أكثر مما يشبه السياسيين في لبنان.
لا ينتبه بهاء أن ما صحّ على سعد عام 2005، فوق جثمان أبيه، لا يصحّ عليه اليوم. لم يسأل أحد سعد الحريري يومها عن خلفيته ولا عن كفاءته أو مشروعه وآفاقه. ولو وُجد من سأل، ما كان سعد الحريري ليملك إجابة تقلّ انتحالاً عن صرخة أخيه في الناس يوم الجنازة “يا قوم”!! .
هول الفجوة التي خلّفها الانفجار في نفوس اللبنانيين كان أكبر بكثير من البحث عن إجابات لهذه الأسئلة. تقلّص الهمّ الى إيجاد ما ومن يكمل الناس به مسيرة رفيق الحريري، وأن يرتجلوا رأساً للمشروع الذي سقط صاحبه، وثمّة من قرّر داخلياً وخارجياً أن الرأس هو سعد وليس بهاء.
لم يُطلّ بهاء الحريري مرة، وهو أطلّ مرات قليلة، الا من زاوية هذا السؤال. لماذا سعد وليس أنا؟ ولم يعرف له اللبنانيون حكاية إلا حكاية خلافه مع شقيقه، تارة على الثروة وطوراً على الحق بوراثة عباءة أبيه! حتى حين قرر الاشتباك التلفزيوني يوم 14 شباط 2020 جعل من حافة الضريح ميداناً للمنازلة بلا أيّ عبارة إضافية. كأنه لا شيء سوى هذا الاسم الثلاثي المرصع باسم رفيق الحريري.
فإطلالة بهاء الحريري الأخيرة عبر بيان هنا ومقالة هناك، وتصاريح بالنيابة عنه تتوزّع على ثلاثة أو أربعة أشخاص، لا تحمل أكثر من جمل متعثّرة ووعود غامضة، بلا أيّ توقّف جادّ عند تعريف مشاكل اللبنانيين في لحظتهم الراهنة ومن دون حتى محاولة الادعاء أن بهاء يملك حلولاً لها أو لبعضها.
على الأرجح يبنى بهاء حساباته على وقائع أزمة الزعامة عند السنّة، بعد ما آلت اليه تجربة شقيقة سعد.
ولعلّه يستشعر أن الساحة تتيح مجالاً للتجريب، بدأه حريريون من خارج كنف العائلة، ويرى نفسه “أولى بالحق”.
غير أنه ولو صحّ افتراضه بوجود أزمة، فهو يقارب ما يراه فرصته السياسية بعدّة شغل باهتة وبجملة سياسية يفوح منها مقدار مضحك من السذاجة، دعك عن أنه يترفّع، بادّعاء شديد، عن حقيقة أن سعد الحريري وحتى إشعار نيابي آخر، هو زعيم الطائفة والممثّل الحصري للحريرية.
الحريرية إرث وطني هائل في رصيد لبنان، واقتراح سياسي اجتماعي إنمائي، هو الأضخم منذ تأسّس الكيان اللبناني عام 1920. لم تكن الديغولية ملكاً لآل ديغول، ولا التاتشرية ملكاً لأسرة المرأة الحديدة، ولا البسماركية إرثاً عائلياً
من المفارقات أن تتزامن همروجة بهاء مع فيديوهات رامي مخلوف في سوريا، ليس لأيّ صلة بترتيب يجمع الاثنين في سوريا وفي لبنان. بل لأن الاثنين مشهدان صراعيان داخل منازل البيت الواحد.
أما تزامنهما فيكشف أن ما يملكه مخلوف من رصيد في الأسدية السياسية، يقزّم إلى حدّ بعيد ما يملكه بهاء في رصيد الحريرية السياسية. أيّ قدر هذا أن يبدأ أبوك من على يمين تاج مهيب، وتبدأ أنت من تجربة كاريكاتورية عن رامي مخلوف!
من الظلم أن يظلّ اللبنانيون أسرى آل الحريري، ومن الظلم أن يظلّ آل الحريري أسرى لبنان بعد كلّ ما تكبّدوه بالمعنيين الشخصي والعام.
وفي كلّ الاحوال، هذا أمر تقرّره الانتخابات النيابية المقبلة، وليس كيديات أُسرية، لن تؤدّي إلا إلى المزيد من استنزاف سعد الحريري من دون القدرة على إنتاج بديل حريريّ عنه.
الحريرية إرث وطني هائل في رصيد لبنان، واقتراح سياسي اجتماعي إنمائي، هو الأضخم منذ تأسّس الكيان اللبناني عام 1920. لم تكن الديغولية ملكاً لآل ديغول، ولا التاتشرية ملكاً لأسرة المرأة الحديدة، ولا البسماركية إرثاً عائلياً.
هي لحظات في حياة الشعوب والأمم يختصر فيها فرد مصير الناس، وتتقطّر أحلامهم كلها في لمعة أمل في عينيه أو عبارة صدق في صوته.
بعضٌ من رجال ونساء صاروا أوطاناً. كثيرون في واحد. ينوبون عن أمم ولا ينوب عنهم أحد.
رفيق الحريري من طينة هؤلاء الناس. أكتاف بحجم سماء واسعة. اسم صار هوية لبلاد وصوت كأنه نشيد حياة..
بهاء الحريري مجرّد مزحة.