تحت عنوان سنّة لبنان كأشقّائهم في المنطقة: لا قادة ولا سياسة منير الربيع في “المدن” وصل حال السياسة في لبنان إلى نقطة متقدمة من اللامنطق. كل ما هو غير اعتيادي، يجتاح الساحة اللبنانية.
الأزمة الاقتصادية والانهيار المالي، وما يترافق معهما من تدهور سياسي غير مسبوق.. كل هذا وضع لبنان على سكّة الدول التعيسة والمحيطة به، ولا سيما سوريا والعراق. الفارق الوحيد أن لبنان يعيش توتراً سياسياً لم يترجم إلى صراع عسكري.
وهناك قرارات واضحة بمنع وقوع أي تفجير أو توتير أمني، شبيه بما حدث ويحدث في المحيط. لكن التداعيات السياسية والمالية والاقتصادية مشابهة تماماً لأحوال سوريا والعراق، على الصعيد الجيوستراتيجي.
أميركا -إيران
بكل بساطة، نموذج اتفاق الطائف قد سقط. سيكون لبنان أمام مرحلة انتقالية جديدة، بانتظار تبلور نموذج جديد أو صيغة اتفاق جديدة.
الوصول إليها يرتبط بالوصول إلى تسوية إقليمية كبيرة.
نصف الاتفاق الدولي الذي أدى إلى توقيع الاتفاق النووي بين الأميركيين والإيرانيين، انعكس على لبنان في رجاحة كفة موازين القوى لصالح حزب الله والتيار الوطني الحرّ.
فأنتجت تسوية انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية.
وقع الاتفاق، وكان الطرفان الأميركي والإيراني، يعلنان أنه لا يرتبط بملفات المنطقة.
والآن تعيش المنطقة على وقع تصعيد أميركي إيراني، تمهيداً لفتح الطريق أمام مفاوضات جديدة، لا تنحصر بالشق التقني للاتفاق النووي، إنما الشروط واضحة لجهة الاتفاق على كل الملفات العالقة في المنطقة.
أي اتفاق أميركي إيراني لن يعود بالزمن إلى الوراء. الطموح بإنهاء الوجود الإيراني في المنطقة وتأثيره، يبدو حالياً في خانة الأحلام، بالنظر إلى الوقائع.
فعلى الرغم من الضعف الإيراني والأزمات المتتالية العسكرية والاقتصادية والمالية، تبقى إيران وحلفاؤها أصحاب القوة الأكثر تنظيماً والأكثر حضوراً.
صحيح أنها قدمت وستقدم تنازلات أساسية وجوهرية.
لكن ستحصل على ثمن في المقابل.
الوجهة التغييرية لرتابة الوضع بدأت مع اغتيال قاسم سليماني. وكان الهدف تحييده، لفتح الطريق امام المفاوضات الطويلة والصعبة والشاقة.
السنّية السياسية
حالة الضياع التي تعيشها المنطقة من العراق إلى سوريا ولبنان، وما يجري فيها من خلافات داخل كل بيئة طائفية أو اجتماعية، هو نتيجة طبيعية لمخاضات مماثلة.
وإذا ما كان هذا الضياع ينعكس خلافات متعددة داخل بنية النظام السوري العسكرية والإقتصادية والأمنية، وتحديداً على الساحة العلوية.. فإن لبنان يشهد حرباً شرسة على الساحة السنّية فيه.
تمر السنّية السياسية في أسوأ مراحلها.
وهي تستحق إعداد دراسات كثيرة، لاستشراف ما يمكن أن تقبل عليه.
الإحباط الذي يعيشه السنّة هذه الأيام، يشبه إلى حدّ بعيد إحباط المسيحيين ما بعد الحرب الأهلية واتفاق الطائف. ويشبه إحباط الشيعة أيام ميثاق الـ43 وما تلاه. وصل الشيعة اليوم إلى ذورة قوتهم.
ينتظرون تفاهماً إيرانياً أميركياً لـ”تقريش” هذه القوة والنفوذ بشكل سياسي معترف به دولياً.
المسيحيون بدأوا مساعي استعادة حضورهم على قاعدة شعبوية تلقى قبولاً في البيئة المسيحية. وهذه يلتقي عليها التيار الوطني الحرّ والقوات اللبنانية.
يلتقيان بقدر ما يتنافسان على من تكون له الأكثرية المسيحية، ويتزعمها.
أما السنّة فهم في أسوأ أحوالهم، في مسار إنحداري، يكررون تجربة الموارنة قبل الحرب الأهلية، تطاحنهم فيما بينهم قضى عليهم.
هذا لا ينفصل عن مسار دولي واضح أسهم في إضعاف الحضور السنّي في كل المنطقة، من مصر إلى السعودية وصولاً إلى سوريا. السنّة في لبنان لن يكونوا في منأى عن هذا المسار.
ما بعد الطائف وسايكس بيكو
أي اتفاق إيراني أميركي، سيغير وجه المنطقة. كما انتهى الطائف في لبنان، هناك من يعتقد بأن اتفاق سايكس بيكو قد انتهى أيضاً.
ولا بد من البحث عن بدائل. لا يمكن استشراف هذه البدائل بعد. لكن المنحى الذي تسلكه الأمور، يوحي بصراعات الشعبويات المتنافرة والعصبيات المتنازعة والنزعات الانفصالية التي تودي إلى تصغير الكيانات السياسية، ليس بالضرورة على قواعد تقسيمية، بل فيدرالية، كواقع مماثل لواقع الجغرافيا السورية، والتي ستبحث الحلول السياسية في كيفية ترجمتها سياسياً أو مؤسساتياً أو دستورياً، عبر صيغ مقترحة لجمع النظام أو ما تبقى منه، مع المعارضة أو المعارضات بتوجهاتها المختلفة، بالإضافة إلى الأكراد. على أن تكون كل جهة ممثلة لمنطقة نفوذها الجغرافية.
وبالعودة إلى الساحة اللبنانية الملتهبة، المخاض سيكون طويلاً والمعركة قاسية. التجاذب سيتسيد الساحة. الثورة بمجموعاتها المختلفة وتنويعتها المتعددة، ستكون بمواجهة جمهور الأحزاب. وهذا، في مقابل تحركات شعبية عفوية احتجاجية على سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
لا يمكن فصل المسار السياسي المحلي والإقليمي عن هذه التحركات. حزب الله يحصّن بيئته. البيئة المسيحية مفتوحة على التنافس التقليدي. بينما السنّة يشهدون أعنف المعارك السياسية في بيئتهم. وهذا أمر لم يعتادوه من قبل، بهذا الشكل وهذه الحدّة، إلى حد أن يصل الصراع إلى داخل البيت الواحد. كل ذلك، نتيجة غياب الرؤية أو المشروع، في لبنان ومن قبل الدول التقليدية الحاضنة للسنّة.
ضربات قاصمة
الخسائر التي مني بها السنة في المنطقة، تنعكس عليهم في لبنان، وتتجلى في صراعات تتخذ الطابع الشخصي داخل البيئة السياسية الواحدة على مسرح الطائفة السنّية. لم يعد الخلاف على نهج أو توجه سياسي. تشبه المرحلة السنّية، حقبة شهدوها في الانقلاب على حكومة سعد الحريري في العام 2011، يومها غادر الرجل إلى الخارج، غاب عن الساحة، بدأت رؤوس كثيرة تبحث عن تعظيم دورها.
فيما آخرون ذهبوا إلى عقد التسويات وإبرامها وتطبيع العلاقة مع ميقاتي. كان من بين هؤلاء الرئيس فؤاد السنيورة، وحينها انتهز فرصة الخلاف مع المفتي السابق محمد رشيد قباني، لعقد لقاءات واجتماعات مع ميقاتي. فحصلت حكومته على المشروعية.
كان أول ضربة قاصمة للسنّية السياسية. بعدها، جاء اغتيال وسام الحسن، ولم يقم تيار المستقبل ولا جمهوره بأي رد فعل حقيقي أو ملموس. يومها كان هناك رأي لنهاد المشنوق، بأنه لا بد من الوقوف وقفة واحدة، وإسقاط حكومة ميقاتي، والتي بالإمكان إسقاطها من طرابلس وبيروت وإقليم الخروب وصيدا. ولم يستجب لرأيه.
اليوم ما يشهده السنّة أخطر، يأتي بهاء الحريري إلى المنافسة السياسية، من المنزل نفسه. هذا مسعى تسرّب في أعقاب استقالة الحريري من الرياض. وهو بحد ذاته دليل على ضعف الرؤية الاستراتيجية للحلفاء الإقليميين للسنّة. يومها أيضاً وقف المشنوق على منبر دار الفتوى، وأعلن ان السنّة ليسوا غنماً، ولا تركة يمكن لأي شخص أن يتملكها. نجح الحريري في استعادة نفسه وتسوية وضعه. لكنه لم ينجح في سياسته.
أخفق كما أخفق من هم من المفترض أن يكونوا حلفاءه. اليوم يخفق الطرفان مجدداً كما سيخفق بهاء في مسعاه. لتبقى الساحة السنّية فارغة وتائهة، تنتظر بروزاً جديداً يستنهضها ببناء مشروع قابل للاستمرار ولاستعادة الدور.